رواية عندما تنحني الجبال
صفحة 1 من اصل 2 •
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 15:38
الفصل الحادي والعشرون
عطشي إليك
قضت نانسي يومها في الجامعة شاردة تماما وغير واعية لضجيج زملائها من حولها خرجت من المحاضرة برفقة ماهر وندى دون أن تفهم حرفا مما قال المحاضر .. سألها ماهر :- هل ترافقيننا إلى الكافتيريا ..سنتناول غداءا خفيفا
تمتمت بكآبة :- لست جائعة .. أظنني سأعود إلى البيت فأنا أشعر بالتعب .. أراكم قريبا
اتصلت بمأمون الذي كان يقف بالسيارة أمام البوابة خلال دقائق.. ركبت بصمت وهي تفكر بعمق وحزن كما كانت تفعل منذ ليلة الحفل المشؤومة .. لقد مرت أيام على تلك الليلة .. ومازالت نانسي ترى تلك النظرة كل ليلة في كوابيسها .. تصحو باكية ومبللة في العرق .. وتنظر إلى محمود النائم إلى جوارها غير شاعر بما تحس به من ألم
لم يعد يتكلم إليها مطلقا منذ رفضها الاستماع إليه وإلى دفاعه عن نفسه .. هي أيضا بالكاد كانت تخرج من غرفتها أو تأكل أو حتى تتحدث إلى أحد .. لقد كانت غارقة في أفكارها وكآبتها .. وتحليلها المضني لما حدث .. لقد فكرت مليا .. وأدركت بأنها لا تحتاج إلى سماع دفاع محمود كي تعرفه وحدها .. فهو متزوج بها منذ أشهر عديدة .. وهي تبعده عنها بشراسة امرأة عجوز سليطة اللسان .. لقد سبق وحذرتها حنان بأن الرجل إن لم يحظى بما يحتاج إليه في بيته فهو سيبحث عنه خارجا .. وها هو محمود يبحث دون أن ينوي هذا حقا عن متعته لدى نساء أخريات .. لا تستطيع لوم محمود على شرود نظره لأنها المسؤولة الأولى عما حدث .. هي من أبعد محمود عنها .. هي من تنفره منها بدلا من السعي لكسب حبه .. لو كانت تستحق محمود حقا لما منحته أبدا سببا ليشتهي امرأة أخرى
قالت فجأة لمأمون :- لنعد أدراجنا إلى المدينة يا مأمون .. سنمر على السوق قليلا
ذلك المساء وقفت نانسي أمام المرآة الكبيرة في غرفتها .. ونظرت إلى انعكاس صورتها في المرآة بتوتر وتأملت نفسها بغلالة النوم الشفافة التي ابتاعتها من أحد أرقى متاجر المدينة .. ترى .. هل تجرؤ على اتخاذ تلك الخطوة ؟ هل تجرؤ على الظهور أمام محمود بهذه الهيئة والتقرب إليه ومحاولة إغواءه ؟
كان القميص الرقيق أسود اللون .. بحمالات رفيعة حمراء بالكاد ثبتت القماش الشفاف إلى جسدها .. أشرطة حمراء كانت تحد من اتساع فتحة الصدر الكبيرة التي حددت معالم أنوثتها بوضوح .. بالكاد كان طول القماش يغطي فخذيها فأظهر جمال ساقيها الطويلتين الرشيقتين الذهبيتي اللون ..
كانت قد تركت شعرها الناعم منسدلا خلف ظهرها بحرية .. واقتصرت على وضع القليل من الزينة خشية تشويه جمالها الطبيعي أو حتى إظهار تلهفها إليه ..بدت رائعة لعينيها وهي تتفحص نفسها بانتقاد عبر المرآة .. أي رجل يجب أن يفقد تماسكه ومقاومته عندما يراها .. ولكن .. هل تجرؤ على السماح لمحمود برؤيتها هكذا ؟
كانت قد قررت بعد تفكير طويل بأن تحارب لكسب حب زوجها ومنع مثيلات نسرين وريم من سرقته منها .. والخطوة الأولى كانت بمنحه ما يحتاج إليه منها قبل أن يسعى إليه خارجا
تصميمها على القتال بدأ يضعف وهي تفكر كالمحمومة بمحمود يلمسها .. أحست بوجهها يتورد وبتوترها يتصاعد وهي تنظر إلى نفسها مرة أخرى متسائلة إن كان سيتقبل مبادرتها بعد كل ما حصل بينهما .. وإن كان سيرفضها انتقاما لنفسه من كل مرة رفضته فيها .. كم ستشعر بنفسها رخيصة وسخيفة بمظهرها هذا
أسرعت تلف نفسها بروبها وتحكم إغلاق الحزام حول خصرها .. لا .. لن تستقبل محمود بذلك المظهر .. لن تحتمل رؤية الرفض والازدراء في عينيه .. فهي حتى الآن لا تعرف كيف ستتمكن من الإفصاح له برغبتها في مصالحته .. بخبرتها الضعيفة في إغواء الرجال .. كيف ستصارح محمود بما تريد
الساعة لم تتم التاسعة بعد .. ومحمود لم يعد .. فقد اعتاد ألا يعود حتى وقت متأخر من الليل تكون فيه نائمة .. وكأنه يتحاشى الاحتكاك بها بأي طريقة
ولكنها ستنتظره .. حتى لو تطلب الأمر منها البقاء مستيقظة حتى الصباح .. تكومت فوق الأريكة محاولة كبح توترها .. وسرعان ما غرقت خلال انتظارها في النوم دون أن تدري .. ولم تستيقظ إلا عندما سمعت صوت الباب يفتح .. فتحت عينيها بنعاس لتجد محمود يدخل إلى الغرفة حاملا بين يديه سترته وقد بدا عليه الإرهاق الشديد .. أجفل لرؤيتها تعتدل فوق الأريكة فقال بوجوم :- لماذا ما زلت مستيقظة ؟
مررت يدها عبر شعرها محاولة ترتيبه .. ورمشت بعينيها لتطرد النعاس غاضبة من نفسها لاستسلامها للنوم .. راقبته وهو يغلق الباب خلفه قائلة بارتباك :- لم أستطع أن أنام ففكرت في انتظارك
قال ساخرا وهو يسحب ربطة عنقه من مكانها :- هل أصابك الملل وقررت الشجار معي مجددا على سبيل التسلية .. آسف يا عزيزتي .. لا مزاج لي اليوم لتبادل الاهانات
قالت بتوتر :- لا أرغب في الشجار معك
جلس على طرف السرير وهو يخلع حذائه فلاحظت الظلال المحيطة بعينيه فقالت بقلق :- تبدو مرهقا هذا المساء
قال بتهكم :- بالله عليك لا تتظاهري بالاهتمام .. فأنا أكره النفاق
أحست بغصة بسبب ما سببته من نفور في نفسه منها .. لقد صدق حقا بأنها لا تهتم لأمره ولا تعبأ به .. كيف ستقنعه بأنه كان دائما مخطئا
عيثت أصابعها بعقدة روبها وهي تغمغم :- طبعا أهتم .. فأنت زوجي في النهاية صحيح ؟
خلع قميصه فحبست أنفاسها لمرأى عضلات صدره القوية وذراعيه المفتولتين .. وراته وهو يفتح الخزانة بحثا عن منامته فقالت باضطراب :- هل أنت جائع ؟ هل أعد لك ما تأكله ؟
صفق باب الخزانة فجأة واستدار نحوها قائلا بنفاذ صبر :- ما الأمر يا نانسي ؟ توقفي عن خلق المقدمات وأخبريني مباشرة بآخر ما سمعته عني .. وما سبب غضبك هذه المرة .. هيا .. كلي آذان صاغية .. فقط توقفي عن تمثيل دور الزوجة الحنون وتكلمي
تجمعت الدموع في عينيها وهي تحاول كبت ألمها الشديد .. لقد خسرت محمود .. أليس كذلك ؟ لقد فات الأوان على محاولتها إنقاذ زواجها وكسب حبه بعد كل ما فعلته بالرجل الذي تحب
همست بضعف :- لا شيء .. أنا آسفة .. أعدك بألا أزعجك مجددا
تحركت لتترك الغرفة قبل أن تسيل دموعها .. وإذ بعقدة الروب تحل تحت ضغط أصابعها .. وينزاح طرفي الروب ليكشف عن قميصها القصير والمثير .. نظرت نانسي إلى محمود بذعر لترى عينيه معلقتان بما ظهر تحت الروب وقد بدا عليه الذهول وعدم التصديق .. فهتفت مذعورة :- أنا عطشى .. سأذهب لأشرب شيئا
وقبل أن تصل إلى الباب كان محمود قد سبقها وأطبق يده على الباب مانعا إياها من فتحه .. رفعت عينيها إليه لتجد نارا ملتهبة تشتعل في عينيه العسليتين .. كان قريبا منها للغاية وقد تسارعت أنفاسه اللاهثة وهو ينظر إلى ما ظهر من الروب الذي أسرعت نانسي تغلقه بيدين مرتعشتين .. همس قريبا منها :- بل أنا العطشان دائما إليك يا نانسي
ارتجفت وهي تستند إلى الباب بظهرها وتتركه يحاصرها بذراعيه ويميل برأسه نحوها قائلا دون أن يصدق حقا ما يحصل :- أخبريني بأنني لا أحلم يا نانسي .. وأنك قد ارتديت هذا القميص لأجلي .. أخبريني بأنك قد أتيت حقا إلي بإرادتك الحرة
احمر وجهها وهي تخفض عينيها عنه وقد بدأ قلبها يخفق بقوة وكل ذرة من كيانها ترتجف خوفا وترقبا .. أمسك بذقنها ورفعها نحوه لينظر إلى وجنتيها المتوردتين وإلى عينيها المتضرعتين فارتجف جسده الضخم وهو يقول بصوت أجش :- أخيرا يا نانسي .. أخيرا يا حبيبتي .. لو تعلمين كم انتظرت هذه اللحظة .. وكم صبرت لأراك أمامي تنظرين إلي بهذه الطريقة .. تجاهرين برغبتك بي المماثلة لرغبتي بك
همست بضعف :- أنا .. أنا خائفة يا محمود
أمسك بها وقربها منه برفق .. وأزاح شعرها الكثيف عن وجهها وهو يهمس بحنان :- لا داعي للخوف يا عزيزتي .. سأهتم أنا بك .. سأرعاك وأحبك كما تستحقين بالضبط
دغدغت كلماته الحنون كيانها وجعلتها تزيد اقترابا منه تلقائيا .. بيدين مرتعشتين أزاح الروب عن كتفيها وتركه يسقط على الأرض .. حبس أنفاسه وهو ينظر إلى جسدها الجميل الذي تلألأت بشرته الناعمة تحت أنوار الغرفة الخافتة ..
رفع وجهها إليه واقترب منها قائلا بصوت أثقلته العاطفة :- أنت لي يا نانسي .. أنت لي وحدي
أحنى رأسه .. وتناول شفتيها بقبلة جائعة ومتلهفة .. بينما جذبتها يداه إلى صدره بقوة وأحاطتها ذراعيه بإحكام .. أحاطت عنقه بذراعيها وسالت دموع العاطفة من عينيها وهي تهمس في قلبها .. أنا لك .. كلي لك ..ولن أكون لغيرك أبدا
استيقظت نانسي صباحا لتجد نفسها وحيدة على السرير الواسع .. وكانت ممتنة لهذا كي تجد الفرصة لتحلل مشاعرها .. ما الذي ستحلله بالضبط .. لقد حصلت على ما أرادته تماما
ابتسمت برضا وهي تتمطى بسعادة .. ليلة الأمس منحها محمود ليلة لا تنسى من العاطفة الجياشة .. لا يمكن ألا يكن لها المشاعر بعد ما حصل بينهما .. تلك الكلمات الجميلة والهمسات الناعمة لن تصدر إلا عن رجل عاشق للمرأة التي يحب
قفزت من السرير إلى الحمام .. وخرجت من الغرفة بعد ساعة وهي تكاد تقفز في خطواتها من السعادة .. رأتها ريم في الممر وقد كانت نانسي تتحاشى لقائها في الأيام السابقة أتقاءا لشرها بعد ما حصل في الحفلة .. أما الآن فهي لا تبالي على الإطلاق .. محمود لها ولن تخشى أن تسلبه منها أنثى حاقدة كريم أو نسرين .. قالت ببشاشة :- صباح الخير يا ريم
عبست ريم غاضبة لسعادة نانسي الواضحة .. وقالت ببرود :- تبدين سعيدة
قالت نانسي بدلال :- ولم لا أكون سعيدة يا عزيزتي .. ألست امرأة عاشقة
قالت ريم بغيظ :- .. هل نسيت فورا ما حصل ليلة الحفلة ؟ لم أدرك كم أنت ساذجة إلا الآن
قالت نانسي متظاهرة بالبراءة :- وما الذي حصل ليلة الحفلة ؟
اقتربت من ريم قائلة بابتسامة قاسية على فمها وهي تقول :- أعرف بأن الفتيات اليائسات مثلك ومثل نسرين قد تتبعن الأساليب الرخيصة للفت نظر محمود إليهن يا ريم .. إلا أنه في النهاية زوجي أنا .. وقد اختارني أنا من بين العوانس المنتظرات في الدور بحثا عن عريس يحملهن فوق كاهله .. وأنصحك وغيرك بالبحث بعيدا عن زوجي وإلا فإنني لن أتردد في القتال لأجله بكل جهدي
تركت ريم واقفة تتميز غضبا .. ونزلت الدرج بخفة لترى حنان المذهولة من البريق المميز المطل من عينيها .. والتورد الذي كسا وجنتيها .. قالت بحيرة :- صباح الخير يا نانسي .. تبدين سعيدة على عكس حالك في الأيام السابقة
منحتها نانسي ابتسامة مشرقة وهي تقول :- ولم لا أكون سعيدة .. إنه نهار جميل .. وأنا جائعة وأتوق غلى فطور ضخم
اقتربت نجوى قائلة :- سيدة نانسي .. هناك مفاجأة لك في غرفة الجلوس ..
اسرعت نانسي تتبعها حنان إلى غرفة الجلوس لتفاجأ بالفعل بباقات الازهار الرائعة الجمال والمتعددة الالوان التي توزعت في الغرفة .. عشرات الباقات ذات النوع النادر التي ملأت الغرفة برائحتها الزكية وجعلت قلب نانسي يخفق بقوة ووجنتيها تتوردان سعادة ..تناولت البطاقة المرسلة مع الأزهار وقرأت التوقيع الانيق المألوف عليها وخط محمود يقول باختصار ( إلى امرأة حياتي .. شكرا للسعادة التي تغمرينني بها )
اغرورقت عيناها بالدموع تأثرا بلفتته الرومانسية .. وتساءلت بحزن .. أي حمقاء كانت لتبعد عنها رجلا رائعا كمحمود ؟ أكل ما كان عليها فعله منذ البداية هو الاستسلام لمشاعرها فقط كي تحظى بكل هذه السعادة ؟
قالت حنان من خلفها بخبث :- أظنني عرفت سبب سعادتك الاستثنائية ..
استدارت نانسي نحو حنان قائلة بحزم مصطنع :- وما الذي تفعلينه هنا ؟ عودي إلى عملك
ضحكت حنان وهي تقول :- امرك سيدتي المخيفة
دخلت السيدة منار لتعرف سبب الضجيج .. فعطست على الفور تأثرا برائحة الأزهار ثم قالت بانزعاج :- ما كل هذه الازهار ؟
قالت نانسي بهدوء :- لقد أرسلها لي محمود يا عمتي
ظهر الغيظ في عيني المرأة الاكبر سنا والتي قالت :- سأكون ممتنة لك إن أبعدتها عن الطريق .. او ربما احتفظت بها في غرفتك .. فانا لدي حساسية اتجاه رائحة الازهار
قالت نانسي بحزم :- انا آسفة يا عمتي .. الأزهار ستبقى كما هي .. ستضطرين لاستعمال غرفة اخرى خلال وجودها
شحب وجه العمة امام وقاحة نانسي التي حملت اصغر الباقات وصعدت بها إلى غرفتها حيث كان هاتفها يرن منذ فترة طويلة .. ابتسمت عندما خمنت هوية المتصل .. وأجابت لتسمع صوته يقول :- صباح الخير يا عروسي الحسناء
تمتمت بخجل :- صباح الخير
:- لماذا لم تجيبي على اتصالي فورا
:- لقد كنت أنظر إلى الأزهار التي أرسلتها .. شكرا لك .. لم تكن مضطرا لفعل هذا
قال بحنان :- بل أنا مضطر لفعل ماهو اكثر لأعبر عن سعادتي بزوجتي الغالية
احمر وجهها فقال بصوت جعل انفاسها تتلاحق :- هل تتوردين مجددا ؟ .. ظننت الخجل بيننا قد انتهى بعد ليلة الأمس
:- آآآآ .. مممم.. أنا
أطلق محمود ضحكة عالية أمام تلعثمها وارتباكها ثم قال بصوت شغوف :- لقد اشتقت لك
قالت بخجل :- وأنا أيضا .. متى ستعود إلى البيت
:- مع موعد العشاء فلدي محاضرات مهمة .. وعمل في الشركة .. مما يذكرني بشيء ..ما الذي تفعلينه في البيت أيتها الكسولة .. لماذا لست في الجامعة ؟
قالت بجرأة :- لقد فكرت بأنني لم أحظ بشهر عسل مناسب .. فمنحت نفسي اليوم إجازة على أمل ألا يشعر أستاذي اليوم بغيابي
:- ألن يشعر بغيابك ؟ سيلقي المحاضرة أخيرا بذهن واضح بدون أن يشوش وجودك تركيزه كالعادة
قالت بدلال :- لن يفتقدني على الإطلاق إذن
صمت للحظات قبل أن يقول بعمق :- سيثبت لك لاحقا إلى أي حد يفتقدك خلال بعده عنك
صمتت عاجزة عن الرد على وعيده الحار فقال برقة :- هل ستنتظرينني الليلة ؟
همست :- أنت تعرف بأنني سأفعل
:- وستكونين عاقلة وتتوقفين عن إثارة جنون عمتي وريم في غيابي ؟
ضحكت بانطلاق وقالت :- لا أعدك .. ولكنني سأحاول
:- ممم .. أظنك تستحقين عقابا شديدا على قلة أدبك
عندما انتهت المكالمة كانت دموع نانسي قد سالت أنهارا من فرط سعادتها .. ضمت الهاتف إلى صدرها وهي تهمس بيأس :- لو تعرف إلى أي حد أحبك
عندما عاد في المساء وجدها في المكتبة تبحث عن كتاب ما .. عندما التفتت إليه فاجأها بقبلة حارة تملصت منها ضاحكة وهي تقول :- محمود .. نحن لسنا وحيدين
نظر إلى ابنة عمه التي كانت ممددة على الأريكة تتصفح مجلة والغضب الأعمى يطل من عينيها فقال باسما :- سامحيني يا ريم .. لم أستطع مقاومة جمال زوجتي
أقفلت مجلتها قائلة ببرود :- بالإذن
خرجت من الغرفة فنظر إلى نانسي قائلا :- لقد اشتقت إليك
قالت متهكمة :- لقد عرف سكان البيت جميعا بهذا
ضمها إليه قائلا وهو ينظر إلى وجهها :- هل تتذمرين ؟
:- لا .. يبدو الوضع غريبا علي قليلا فحسب
داعب وجنتها الناعمة قائلا :- لن يكون كذلك بعد الآن .. أنت زوجتي .. ومن الطبيعي أن أظهر لك مشاعري دائما .. وأنت أيضا ستظهرين للجميع كم تحبينني وكم اشتقت إلي
رفعت وجهها إليه وهي تقول بوقاحة :- أنا لم أقل بأنني قد اشتقت إلي
نظر إلى فمها قائلا :- لا .. لأنك ستخبرينني بالفعل لا بالقول
أحنى رأسه ليقبلها في اللحظة التي ارتفعت طرقات الباب ودخلت نجوى قائلة بحرج :- العشاء جاهز يا سيدي .. والكل في الانتظار
اسودت عينا محمود وهو ينظر إلى الباب حيث توارت نجوى المحرجة .. فضحكت نانسي وهي تبعده عنها قائلة :- من الأفضل أن نوافي العائلة إلى غرفة الطعام قبل أن يرسلوا شخصا آخر للبحث عنا
زمجر قائلة :- تستطيعين النجاة بنفسك الآن .. ولكن ليس طويلا
خلال العشاء لاحظ الجميع تغير العلاقة بين كل من محمود ونانسي .. لم يغفل أحد عن النظرات التي كانا يتبادلانها .. أو الطريقة التي كان يطعمها فيها بيده كأي زوج مغرم .. بينما تمنحه هي ابتساماتها الواعدة
كسا الوجوم أفراد العائلة المحيطين بهما باستثناء فراس الذي بدا غافلا عما حوله وهو يتناول طعامه دون أن يتوقف عن الكلام عن آخر إنجازاته في معهده ..بعد العشاء أصرت نانسي على الجلوس مع العائلة في الصالة ( لعجز العمة عن دخول غرفة الجلوس بسبب الأزهار التي امتلأت بها ).. ولاحظت بدقة نظرات محمود التي كانت ترسل لها الرسائل المتتالية دون أن تعيره اهتماما وقد استلذت بهجة أن يطاردها رجل كمحمود ويسعى لكسب ودها وهو ما لم تعرفه من قبل
اعتذر محمود من الجميع متعللا برغبته في النوم باكرا .. ثم نظر إلى نانسي بطريقة ذات معنى قبل أن يسبقها .. فابتسمت متجاهلة إياها وهي تفكر .. هل يظن بأنها ستركض لتلبية رغباته فور أن يشير إليها ؟ يجب أن يتعلم أن يحترم رغباتها وإرادتها هو الآخر .. بعد ساعة كاملة .. أدركت نانسي بأنها كانت أكثر شوقا إلى زوجها مما ظنت .. فتسللت إلى الأعلى .. ودخلت إلى الغرفة لتفاجئ بالظلام الدامس المخيم عليها .. عقدت حاجبيها بقلق .. هل يعقل أن يكون قد نام ؟
ما إن أغلقت الباب ورائها حتى التفت ذراع قوية حول خصرها ورفعتها عن الأرض وكأنها لا تزن شيئا مما جعلها تصرخ بذعر انقلب إلى ضحك مجنون وهي تصيح :- ما الذي تفعله ؟
زمجر وهو يضمها إليه بقسوة قائلا :- أعاقبك أيتها الماكرة الصغيرة ذات العينين الخضراوين .. لماذا لم تلحقي بي على الفور ؟
قالت له وهي ترتعش لملمس شفتيه على عنقها ووجنتها :- لأنني لست جاريتك كما لست سيدي لأهب نحوك فور إشارتك إلي ..
كانت تحاول أن تصبغ الصرامة على لهجتها إلا أنها لم تنجح وقد بدأت يداه بحل أزرار قميصها .. إذ بدأت على الفور تضعف أمام حبها له وشعورها نحوه .. حملها بين ذراعيه إلى السرير العريض ووضعها فوقه منضما إليها .. ونظر إلى وجهها عبر الظلام الشديد حيث تمكنت من سماع صوت أنفاسه واضحا .. وتمكن هو من الإحساس بخفقات قلبها تدوي بقوة كالطبل .. قال بصوت جعل كل خلية في جسدها ترتعش شوقا .. :- بل أنا سيدك يا عزيزتي .. وسأثبت لك الآن وحالا كيف تعاقب المرأة حين تخالف أوامر سيدها
لم تعترض نانسي أبدا على عقابه لها .. في الواقع .. لقد كان ألذ عقاب عرفته في حياتها كلها .. حياتها التي لم يكن لها أي معنى قبل أن يدخلها محمود
تقييم المساهمة: 100% (1)
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 15:39
الفصل الثاني والعشرون
إلى الجنة
استيقظت نانسي متاخرة في صباح اليوم التالي ووجدت نفسها وحيدة إلا انها لم تبالي ... فهي ومحمود لم يناما حتى الساعات الاولى من الصباح .. تذكرت ما حدث وهي تبتسم لنفسها عاطفة محمود الجياشة .. أحاديثهما التي استمرت طوال الليل .. احمرت وجنتاها وهي تشعر بالسعادة في اللحظة التي ارتفعت بها طرقات الباب قبل أن يفتح لتطل حنان حاملة صينية الإفطار قائلة :- صباح الخير يا عروس
شدت نانسي البطانية حول جسدها وهي تقول بحرج :- صباح الخير يا حنان .. ما سبب دلال هذا الصباح .. فأنا لم أطلب فطورا إلى السرير
لست أنت من طلب يا عزيزتي .. بل الدكتور محمود قبل ان يخرج صباحا .. أصر على ألا يوقظك احد وأن آخذ لك إفطارا كاملا إلى السرير .. بدا راضيا تماما هذا الصباح
احمر وجه نانسي وهي تغمغم :- توقفي يا حنان ... أنت تحرجينني
بعد ان أخذت حماما سريعا .. جلست تتناول إفطارها برفقة حنان التي لم تستطع كبح دموعها وهي تراقب نانسي تأكل بشهية وبريق السعادة يطل من عينيها .. لاحظت نانسي دموعها قالت بقلق :- ما الأمر يا حنان ؟ لماذا تبكين ؟
مسحت حنان دموعها وهي تقول متأثرة :- أفكر بأمك .. وأتمنى لو كانت موجودة لترى سعادتك بعينيها
توقفت نانسي عن الاكل وهي تفكر بأسى في امها التي توفيت قبل أن تطمئن على بناتها فتمتمت :- وأنا أيضا
ربتت حنان على كتف نانسي قائلة بحرارة :- الدكتور محمود رجل رائع يا نانسي ..ويحبك بجنون .. حافظي عليه بكل قواك .. ولا تسمحي لنفسك بخسارته
ابتسمت نانسي وهي تقول بامتنان :- لن أفعل يا حنان .. أعدك
ارتفع رنين هاتفها في هذه اللحظة فأجابت باسمة .:- صباح الخير
اتاها صوته الدافئ يقول :- صباح النور أيتها الغالية .. نائمة حتى الآن ؟
قالت متهكمة :- لم يجرؤ احد على إيقاظي بناءا على أوامرك يا أستاذي العزيز .. ظننتك غضبت لغيابي عن الجامعة صباح الامس
:- لنقل بانني اقتنعت بوجهة نظرك وأدركت استحقاقك لشهر عسل حقيقي .. لذا أطلب منك إعداد حقيبة باحتياجات تكفي 3 أيام
قالت بلهفة :- إلى أين سنذهب ؟
ضحك لفضولها الطفولي وقال :- إنها مفاجأة .. سيحضرك مأمون إلى الشركة حيث أنهي الآن بعض الاعمال تحضرا لغيابي .. ومن هناك سننطلق معا
أنهى المكالمة فظلت نانسي تحدق في الهاتف حتى سألتها حنان بفضول :- حسنا .. ماذا قال لك ؟
قالت نانسي غير مصدقة :- سيأخذني بعيدا لمدة ثلاثة أيام بدلا من شهر العسل الذي لم أحصل عليه
أشرق وجه حنان وهي تقول :- هذا رائع يا نانس ي.. أنت محظوظة للغاية .. سأعد لك حقيبة صغيرة ببعض الضروريات على الفور
راقبتها نانسي وهي تبدأ بتوضيب بعض الأغراض داخل حقيبة صغيرة بينما هي تفكر بكلماتها قلقة .. إنها محظوظة بالفعل .. ولكن إلى متى ؟.. بهجة محمود ودلاله لها يسعدها إلى حد تشعر معه بالألم في قلبها وهي تتذكر كلمات ريم القاسية .. ماذا سيحدث لها إن مل يوما .. إن سئم من جمال وبهجو لعبته الحالية وأراد الحصول على المزيد ؟ ماكانت لتشك لولا تلك النظرة القاتلة التي تقفز لتطل أمام عينيها بين اللحظة والاخرى لتذكرها بأن محمود إن ضعف مرة .. فمن الممكن ان يضعف ألف مرة
أزاحت تلك الأفكار المسمومة من عقلها وقررت بأن محمود لها .. ولن يأخذه منها أحد.. وأنها ستستمتع بوقتها معه دون ان تسمح للشكوك بأن تعكر عليها صفو حياتها .. فمحمود يظهر لها في الوقت الحالي الشغف الكبير وما عليها إلا ان تسعى للحفاظ على هذا الشغف بكل جهدها
ارتدت سروالا ضيقا من الجينز الذي اظهر جمال ساقيها .. وكنزو حمراء جميلة التصميم عالية الرقبة .. وتبرجت برقة وهي تنظر إلى وجهها الذي امتلك وهجا مختلفا بسبب السعادة
في السيارة .. وبينما يقلها مأمون إلى مقر الشركة في قلب المدينة .. كانت نانسي تنظر إلى المدينة المبتلة عبر النافذة .. ماهي إلا اسابيع قليلة وينتهي الشتاء .. وياتي الربيع حاملا معه الخضرة والأزهار والبهجة والحب
عندما توقفت السيارة في كراج المينى الضخم للشركة خطر في بالها سؤال أقلقها .. جعلها تنظر إلى مأمون وتسأله :- أخبرني يا مأمون .. هل هناك موظفات في الشركة ؟
أجفل لسؤالها بعد صمتها الذي استمر طوال الطريق وقال وهو يطفئ المحرك :- بالتأكيد .. هناك الكثير من الموظفات .. منهن الآنسة هلا سكرتيرة الدكتور محمود .. إنها لطيفة جدا
سكرتيرة .. لطيفة جدا .. اشتعل بريق التحدي والشقاوة في عيني نانسي وهي تترجل من السيارة بعد أن فتح لها مأمون الباب .. نظرت إلى ملابسها البسيطة بحسرة متمنية لو أنها ارتدت شيئا أكثر أناقة .. سألت مأمون بقلق :- هل يبدو مظهري جيدا ؟
تأملها بنظراته المتفحصة وهو يقول :- تبدين رائعة يا سيدتي ..أي من الموظفات لا تقارن بك مهما كانت بساطة ملابسك
انتبهت فجأة إلى أنها قد تبسطت كثيرا مع مأمون الذي كان يشبه بطباعه البسيطة حنان .. كان مستعدا للتواطئ معها فور أن يلمح تشجيعا .. فقالت له متظاهرة بالحزم .. :- ما الذي تنتظره ؟ أوصلني إلى مكتب محمود
ابتسم وقد اعتاد على طباع سيدته المتناقضة وقال فاهما توترها :- بالتأكيد يا سيدتي .. تفضلي
قادها إلى داخل صالة الاستقبال حيث حياها رجل الأمن باحترام ووقفت موظفة الاستقبال لتحييها فور معرفتها بهويتها .. لا .. لا خوف من هذه الموظفة .. صعدت مع مأمون إلى الطابق الخامس حتى أشار إلى باب كبير قائلا :- هذا هو مكتب السيد محمود .. سأنقل حقيبتك إلى سيارته وأذهب .. هل تأمرينني بشيء
شكرته بتوتر وهي تسير نحو الباب المفتوح .. وتدخل إلى مكتب السكرتيرة الجميلة اتي انهمكت في العمل على شاشة الكمبيوتر بتركيز مماأتاح لنانسي الفرصة لتأملها جيدا .. كانت جميلة بالفعل .. بأناقة كلاسيكية متمثلة بطقم أبيض شديد الأناقة .. وشعر أسود مرفوع بإتقان فوق رأسها .. ندمت نانسي تماما على بساطة مظهرها .. ثم دخلت رافض أن يهز شيء سخيف كهذا ثقتها بنفسها .. فهي نانسي راشد .. زوجة محمود .. بملابس أنيقة أو لا
رفعت الفتاة رأسها نحو نانسي قائلة باستغراب :- هل من خدمة يا آنسة ؟
قالت نانسي بشموخ :- أنا هنا لرؤية محمود
ذكرها لاسمه بدون ألقاب جعل الفتاة تعبس وهي تتأمل الهيئة الشبابية لنانسي .. قالت ببرود :- ومن تكونين ؟
قالت نانسي ببرود مماثل :- لم لا تخبرينه بوجودي .. وتسألينه بنفسي عمن أكون
قالت الفتاة بغيظ من وقاحة نانسي :- لديه اجتماع مهم .. وهو لا يحب أن يقاطعه أحد أثناء عمله
خرج في تلك اللحظة العم طلال برفقة رجلين أنيقين .. ودعهما ثم نظر إلى نانسي بدهشة قائلا :- أهلا بك يا نانسي .. ما الذي تفعلينه هنا ؟
رفعت رأسها بتحدي وقد لاحظت بأن وجودها لم يسعده وقالت :- جئت لأرى محمود يا عمي .. أظنه متفرغ الآن لمقابلتي
أسرع يخفي كل مشاعره وهو يقول :- بالتأكيد .. تفضلي بالدخول إلى مكتبه
دخلت وهي تنظر إلى الفتاة السمراء مبتسمة بانتصار .. وسرعان ما كانت تقف داخل مكتب محمود الذي وقف وهو يقول مبتسما :- أحييك على سرعتك .. لم أتوقع وصولك باكرا
قالت بدلال :- أهذا تذمر يا دكتور محمود؟ أستطيع الذهاب والعودة لاحقا إن كنت مشغولا
وصل إليها جذبها نحوه قائلا :- تستحقين عقابا على لسانك السليط
قالت بوقاحة :- هل تعني عقابا شبيها بعقاب ليلة الأمس ؟
ضحك قائلا : - وعقابا آخر لوصفك ما حدث ليلة الأمر بالعقاب
قالت وهي تشير إلى الباب :- لقد قابلت العم طلال لتوي .. ولم يبدو سعيدا لرؤيتي هنا
اختفت ابتسامته وهو يقول بوجوم :- ولماذا يتذمر من وجودك ؟ لابد أنك تتوهمين
ندمت على ذكر عمه وهي التي تعرف مدى حساسية محمود اتجاه عائلته .. أحاطته بذراعيها قائلة :- ألن تخبرني إلى أين سنذهب ؟
ابتسم قائلا :- توقفي عن طرح سؤال تعرفين بأنني لن أجيبك عليه .. لقد قلت لك بأن مقصدنا مفاجأة لك
ابتسمت قائلة :- متى سنذهب إذن ؟ هل يحق لي بطرح هذا السؤال ؟
:- بالتأكيد .. سنذهب فور أن أنهي بعض الأمور .. سآخذك إلى مكان لا يسعك فيه التفكير بسواي
كأن غيره من الممكن أن يشغل عقلها .. لاحظ نظراتها التي سهمت بعيدا .. فلكز رأسها بطرف إصبعه قائلا :- هل فهمت ما أعنيه ؟
ابتسمت وهي ترفع نظرها إليه :- آسفة .. من الآن فصاعدا لن أفكر بسواك
ظهر الرضا في عينيه وهو يقول :- لنوقع على اتفاقنا هذا إذن ..
انحنى يطبع قبلة خفيفة على شفتيها .. ثم نظر إليها عابسا وكأن تلك القبلة الصغيرة لم تكن كافية .. فعاد ليقبلها بشغف أكبر أطاح بصوابها .. وإذ بصوت السكرتيرة المرتبك يقول :- أنا آسفة
ابتعد محمود عن نانسي بهدوء عندما قالت السكرتيرة بحرج :- لقد .. لقد طرقت الباب مرارا .. أنا آسفة
رمت نانسي نحوها نظرة انتصار بينما قال محمود بهدوء :- لا بأس يا هلا .. تعالي أعرفك على زوجتي نانسي .. نانسي .. هذه هلا .. سكرتيرتي منذ فترة طويلة ..
ظهرت الصدمة على الفتاة التي قالت :- لم أعرف هذا .. اعذريني يا سيدتي لأنني لم أعرفك خارجا
قالت نانسي بابتسامة القطة الشبعانة وهي تقول :- لا عليك .. يسهل نسيان الخطأ عندما نحرص على عدم تكراره
اعتذرت الفتاة مجددا وخرجت فضحك محمود وهو ينظر إلى نانسي قائلا :- لا يمكن أن تتغيري .. صحيح
قالت نانسي وهي تمط شفتيها بحدة :- من واجبي إيقاظ أي امرأة من أحلامها عندما يتعلق الأمر بك
داعب وجنتها وهو يقول بحنان :- أحب غيرتك علي
فكرت بصمت .. بشرط ألا تكون في محلها يا محمود
في الطريق التزمت نانسي بالصمت لعلمها بأن محمود لا يحب التحدث كثيرا أثناء القيادة .. دوى صوت موسيقاه المفضلة المنبعثة من جهاز التسجيل بينما ركز هو انتباهه الكامل على الطريق .. الطريق الذي استغرق منهما حتى الآن أكثر من 3 ساعات .. وقد لاحظت نانسي بأن محمود يسلك الطريق المؤدي ‘إلى الجبل .. ورغم فضولها الشديد أصرت على عدم سؤاله عن وجهتهما كي لا تفسد المفاجأة التي يخبأها لها
إلا أنها في النهاية عندا تجاوز المدينة الجبلية الصغيرة .. واتجه نحو منزل صغير محاط بسور حجري لم تستطع الانتظار .. فسألته بفضول :- ما هذا المكان ؟
ضحك بانطلاق وهو يقول :- ظننتك لن تسألي أبدا ؟ ستعرفين حالا
نزل من السيارة كي يفتح البوابة .. ثم عاد إليها كي يدخلها إلى الساحة الداخلية ويقف أمام باب المنزل الصغير .. ثم عاد لينزل كي يغلق البوابة خلفه بينما نزلت هي من السيارة لتصدم بالبرودة الشديدة بسبب ارتفاع المنطقة .. أسرع محمود يحيطها بذراعه كي يقيها الهواء الشديد ويسير بها نحو الباب ويفتحه بمفتاح خاص ثم يدخلها
الدفء في الداخل كان مذهلا .. وهو أول ما لفت نظرها بعد البرد القارس خارجا .. ثاني ما أثار انتباهها هو النار المشتعلة في المدفأة الحجرية وقد أثار فيها وهجها والطقطقة الصادرة عن احتراق الخشب احساسا لذيذا بالدفء .. عندها فقط جرت بعينيها في المكان لتفاجئ بالمساحة الصغيرة للغرفة الحميمية الديكور كانت مكونة من قسم جلوس بأثاث وثير مصنوع من الجلد البني الوثير .. وقد بسطت سجادة متعددة الألوان على الأرض أمام المدفأة .. ووزعت مصابيح ذات إنارة رومانسية في المكان جعلته يبدو كالحلم
إلى جهة اليمين وعلى ارتفاع درجتين كانت هناك طاولة صغيرة تتسع لأربع أشخاص غطتها ملاءة بيضاء وعلاها شمعدان فضي بشموع طويلة لم تشعل بعد .. وقد جهزت الطاولة بأدوات مائدة لشخصين بالإضافة إلى وردة حمراء طازجة توسطت المائدة بإناء طويل
نظرت إلى محمود مذهولة وهي تقول :- محمود .. ماهذا المكان
ابتسم راضيا عن تأثرها وقال :- هل أعجبك ؟
عادت تنظر حولها مبهورة :- إنه جميل جدا .. يذكرني ببيت اللعبة الذي كنت أمتلكه في صغري .. هل هو لك ؟
أحاطها بذراعه قائلا :- لقد اشتريته منذ سنتين .. وأنا أهرب إليه كلما أحسست برغبة بالانفراد .. من الآن فصاعدا هذا سيكون ملاذنا الخاص
قالت بابتهاج :- إنه رائع ..لا أطيق صبرا لرؤية ما تبقى منه
سحبها من جديد عندما تحركت وقال :- يفضل ألا تفعلي لأنني لا أضمن خروجك من غرفة النوم إن دخلت إليها
صدمتها صراحته .. والرغبة المستعرة في عينيه فصدقته .. وقالت بخجل :- ما الذي تقترح ان نفعله إذن ؟
ابتسم لخجلها النادر .. وقال :- لابد أنك جائعة .. أنا متأكد من وجود شيء في المايكرويف ينتظر أن يعاد تسخينه .. ما رأيك أن نلقي نظرة سويا
المطبخ كان صغيرا وحميما للغاية .. إلا أنه مجهز بكل وسائل الرفاهية .. كان محقا فيما يتعلق بالوجبة المعدة للتسخين فقالت بدهشة :- إنها وجبتي المفضلة
وضع الطبق في جهاز التسخين بينما قالت بحيرة :- كيف استطعت فعل كل هذا ؟ تجهيز الطعام .. تنظيف البيت .. المدفأة المشتعلة ..
قال وه وينظر إليها من خلف كتفه :- ليس الأمر صعبا .. أطلب دائما من الجيران العناية بالمكان في غيابي .. وطلبت منهما تجهيزه مساء الأمس .. أردت الأمر أن يكون مفاجأة جميلة لك .. وسعيد لأن المكان قد أعجبك
وضع الطعام على الطاولة وأشعل الشموع .. ثم أزاح لها الكرسي لتجلس أمامه وهو يقول مداعبا :- تفضلي يا سيدتي
جلست وهي ترتجف من فرط المشاعر التي فاضت داخلها .. وهي تنظر إلى محمود الذي جلس أمامها وقد بدا رائعا عندما انعكس عليه ضوء الشموع الأحمر فجعلت وسامته تبدو شيطانية ومثيرة بشكل جعل نبضات قلبها تتسارع بجنون .. قال لها ك- بماذا تفكرين ؟
تمتمت :- بكل شيء.. بك .. بنا معا .. وحياتنا القادمة
أمسك يدها عبر الطاولة وهو يقول :- لنتناول طعامنا الآن .. وسنتحدث بعدها كما تشاءين
ابتسمت له وهي تطيعه برضا .. وبعد تناول الوجبة اللذيذة تعاونا في تنظيف المائدة .. ثم وقفت نانسي أمام الحوض لتنظف الأطباق بينما نظر إليها محمود متأملا وهو يقول باسما :- يبدو لي مظهرك وأنت تنظفين غريبا .. لا أصدق بأن نانسي فتاة القصور المدللة تنظف الآن الأطباق وكأنها قد ولدت وهي تقوم بهذا العمل
قالت منه متظاهرة بالغضب :- أتسخر مني ؟ من يسمعك لا يصدق بأنك الرجل الذي ولد حقا وفي فمه ملعقة من ذهب .. الطلاب في الجامعة كانوا يحتارون كثيرا حول حياتك البعيدة عن الجامعة .. البعض كان يقول بأنك ثري جدا .. والآخر كان يقول بأنك فقير جدا خلف مظهر الدكتور الوقور .. حيث استمتعوا بتخمين الأعمال الجانبية التي كنت تقوم بها بعد دوامك في الجامعة لتزيد من مدخولك
قال مستمتعا :- وماذا عنك ؟ إلى أي فئة كنت تنتمين ؟
قالت بارتباك :- أنا ؟
:- لا .. لا تخبريني .. أظنني عرفت وفقا للطريقة التي اقتحمت بها مكتبي عارضة علي رشوتك تلك
احمر وجهها وهي تغلق صنبور الماء وتجفف يديها هامسة :- لا تذكرني بهذا .. فهو يخجلني
أدارها إليه ونظر إلى وجهها الجميل قائلا :- لا أستطيع أن أنسى .. فجمالك في تلك اللحظة التي انفجرت فيها غاضبة وأنت تهددينني وتتوعدينني لا ينسى
رغم كلامه فهي لم ترغب بتذكر تلك الأيام .. فتمتمت :- هل أعد بعض الشاي ؟ ..
لوى فمه بابتسامة عابثة وهو يقول :- سأعده أنا .. سأثبت لك ما يمكن لرجل ولد وفي فمه ملعقة من ذهب أن بفعل .. انتظريني أمام المدفأة وسألحق بك فورا
أطاعته على الفور وذهبت إلى غرفة الجلوس حيث جلست على السجادة الصغيرة وأخذت تتأمل النيران المشتعلة بشرود حتى جاء أخيرا حاملا كوبي الشاي وناولها أحدهما ثم جلس إلى جانبها يتأمل النار بدوره .. احتست الشاي بتلذذ ثم قالت مازحة :- لذيذ جدا بالنسبة لابن القصور المدلل
قال بمكر وهو يميل نحوها :- ألا يستحق ابن القصور قبلة شكر على الشاي اللذيذ ؟
مالت لتطبع قبلة خفيفة على وجنته إلا أنه أسرع يجذبها ويقبل فمها بقوة جعلتها تشهق ضاحكة وهي تحاول منع الشاي من الانسكاب :- محمود .. انتبه
لم يسمح لها بالابتعاد عنه .. بل أصر على أن تبقى ملتصقة به تنعم بدفء جسده فلم تمانع .. سألته فجأة بتردد :- محمود .. لقد أردت أن أسألك شيئا ..
:- اسألي ما شئت
تورد وجهها وهي تحارب ارتباكها وتقول :- عندما .. تلك الليلة .. عندما غبت لأيام عن البيت .. هل .. هل جئت إلى هنا ؟
نظر إليها وقد اختفت ابتسامته فجأة .. وأطل في عينيه ندم عميق وهو يقول :- نعم يا نانسي .. لقد جئت إلى هنا لأنني لم أستطع أن أعود و أواجهك بعد ما فعلت .. الطريقة التي عاملتك بها لم تكن إنسانية على الإطلاق .. لقد انجرفت خلف غضبي ورغبتي بك فلم أفكر حتى رأيت دموعك .. وأدركت إلى أي حد جرحت براءتك تلم الليلة
لم أستطع العودة وفرض وجودي عليك مجددا قبل أن تهدأي على الأقل .. أنا آسف للغاية على ما فعلت .. لن أستطيع ما حييت أن أعوضك عن الأذى الذي سببته لك
لمست ذقنه الذي بدأ ينمو وهي تهمس :- أنا من عليه الاعتذار لك يا محمود .. لقد كنت وقحة للغاية وتعمدت مرارا أن أثير غضبك . . وكأنني كنت أحثك على فعل ما فعلت دون أن أعرف .. أدرك بأنني تصرفت بطفولية في كثير من الأحيان ..وبتهور في أحيان أخرى .. كنت عنيدة وغبية ولم تكن أنت مضطرا لتحمل المزيد من فتاة سيئة الخلق مثلي
قبل جبينها قائلا برقة :- ما حدث قد حدث .. وسننساه معا إلى الأبد .. ما رأيك ؟
أومأت برأسها .. ثم وضعت كوبها الفارغ جانبا واندسا إلى جانبه أكثر وأغمضت عينيها وهي تصدر صوتا راضيا وكأنها قطة نعسانة فابتسم وهو يضمها إليه قائلا :- هل أنت سعيدة معي يا نانسي ؟
فتحت عينيها ونظرت إليه عندما أكمل :- لقد كان بإمكانك السفر مع خالك و ما كنت لأمنعك إن أصررت .. لا .. أظنني كنت لأمنعك بكل قوتي .. ولكنني لم أتخيل أن تبقي من تلقاء نفسك .. ظللت أقنع نفسي بأنك ربما رغم توتر علاقتنا تشعرين بالأمان معي .. وتحبين الإقامة في بيتي .. أما الآن وقد تحسنت علاقتنا فأنا أريد أن أعرف إن كنت سعيدة معي أم لا
تأملت وجهه الوسيم وقد أحست بحبه يطفو من كل حواسها .. قالت بدفء :- طبعا سعيدة يا محمود .. ربما لم نكن متفقين .. ولكنني دائما أحسست بالأمان معك .. منذ البداية ورغم إنكاري الشديد .. عندما لحقت بنا إلى منزل الشاطئ .. وجودك كان يطمئنني إلى وجود شخص يمكن الاعتماد عليه وقت الحاجة .. عندما توفيت أمي وقفت إلى جانبنا وكنت لنا سندا أنا ولينا وهو ما لن أنساه ابدا .. ربما كانت انهارت لينا لولا اهتمامك بها ورعايتك لها .. بعد زواجنا كنت صبورا للغاية معي بينما كنت أنا متحفزة دائما كالنمرة الشرسة .. وقفت إلى جانبي ودافعت عني في كل مناسبة وكأنني لست الزوجة التي تزوجتها كي تساعدها في محنتها بل ..
صمتت وهي تخفض عينيها فقال بهدوء :- هل تظنينني تزوجتك حقا لأنني أشفق عليك يا نانسي ؟ .. هل تصدقين بأن رجلا بالغا يربط نفسه بعد سنوات على الإضراب عن الزواج بامرأة فقط كي يساعدها في ظروفها الصعبة ؟ كان بإمكاني فعل أي شيء لمساعدتك .. كأن أجد لك وظيفة لدي أو أقرضك مبلغا من المال أو حتى أقدم لك النصح
قالت بحيرة وقلبها يخفق بقوة :- لماذا تزوجت بيس إذن ؟
نظر إلى عينيها المتسعتين بترقب وقال بهدوء ووضوح شديد :- لأنني أحبك يا نانسي .. تزوجت بك لأنني أحبك
دوت الكلمات في أذن نانسي وتردد صداها من حولها بينما أبت أن تصدقها وهي تحدق به مذهولة وتردد :- تحبني !
:- نعم .. أحبك .. ومنذ البداية .. منذ أول مرة رأيتك فيها .. أذكر أنك دخلت قاعة المحاضرات متأخرة وأنت ترتدين فستانا أزرقا بلون السماء .. شعرك كان منسدلا خلف ظهرك وقد انعكست أشعة الشمس على خصلاته الذهبية الناعمة .. أذكر جيدا بريق عينيك وأنت تطرقين الباب وتدخلين وكأنك تمتلكين المكان
قالت نانسي بارتباك :- لقد طردتني ذلك الصباح شر طردة من القاعة محذرا إياي من التأخر مجددا
ابتسم قائلا وهو يداعب شعرها الناعم :- ماذا كان علي أن أفعل عندما وجدت نفسي أسيرا لفتاة فاتنة .. نظرت إلي وكأنني قد ارتكبت جرما في الوقوف في وجهها .. كان علي مقاومة الاحساس الذي انتابني لأول مرة في حياتي .. إحساس بالانبهار والتوق إلى فتاة تبلغ نصف عمري تقريبا .. إلا أنها لا تقل قوة عن جبل شامخ
قالت مترددة :- لا بمكن أن تكون قد أحببتني في ذلك الوقت .. خاصة بعد الطريقة التي اقتحمت فيها مكتبك وكلامي الوقح معك
ابتسم قائلا :- لم يعجبني ما فعلته .. ولكنني أحببت قوتك وكبرياءك .. عشقت الطريقة التي واجهت بها الجميع بلا خوف بعد وفاة والدك .. لقد رغبت بأن أكون أنا من يساعدك في الحفاظ على شعلة الكرامة التي كانت لا تختفي أبدا من عينيك .. رغبت بأن أكون السند لك .. أن أحميك من أي أذى .. ذلك المساء عندما حاول جابر أذيتك كدت أجن لأن شخصا حقيرا كاد يدنس المرأة الأكثر سموا التي عرفتها في حياتي .. المرأة المحرمة كما كان جميع الطلاب ينادونك خلسة
احمر وجهها وهي تقول :- هل كنت تعرف هذا ؟
أطلق ضحكة قصيرة وهو يقول :- أعرف كل ما يتعلق بك .. لقد ظننت دائما بأن هذا اللقب يليق بك جدا .. فأنت كنت في نظري كالجوهرة بحاجة إلى عناية واهتمام .. أردت أن أكون أنا من يصونك ويحميك .. ويحافظ على بريقك الأخاذ النادر الوجود
تمتمت بذهول :- لم يكن لدي أي فكرة عن مشاعرك .. لماذا لم تخبرني بها من قبل ؟
:- وكيف لي أن أفعل وأنت تبدين دائما في وجودي كالقطة المتحفزة للقتال .. كنت متوترة وحذرة دائما .. كنت لا تخفين عني تذمرك وكراهيتك لي .. كيف سأصارحك بمشاعري في الوقت الذي أجبرتك فيه على الزواج مني بطرقي الملتوية وأنا أرى نفورك الواضح مني ..
همست بخفوت :- أنا آسفة يا محمود .. لقد سببت لك الكثير من الإزعاج والألم بتصرفاتي الحمقاء وعنادي
ضمت نفسها إليه فاحتواها بين ذراعيه بقوة سامحا لها بأن تقبله على شفتيه برقة ثم تسند رأسها على كتفه وتتأمل النار دون أن تصحو من ذهولها .. محمود يحبها .. محمود يحبها هي .. لا تستطيع أن تصدق .. إلا أنها تفعل .. فرجل كمحمود لن يقول شيئا لا يعنيه .. هو ليس كاذبا أو تافها ليفعل .. وقد سبق وحصل على ما يريده منها .. هل هي تحلم أم أنها حقا قد حصلت أخيرا على حبه الخالص
هل يمكن أن تجد السعادة الكاملة أخيرا ؟ .. لاحظت شروده وهو يتأمل النيران المتوهجة في الموقد فقالت بقلق :- ما الذي تفكر به يا محمود ؟
نظر إليها وابتسم على الفور قائلا :- أفكر بك .. وبأنك بين ذراعي أخيرا دون مقاومة يا نمرتي المتوحشة .. ترويضك كان صعبا .. إلا أنه يستحق العناء
قالت بغيظ مصطنع :- لا تكن متأكدا بأنك أنت من روضني .. قد أكون أنا من روضك يا أستاذ الجامعة البارد المتعالي
أطلق ضحكة عالية وهو يقترب منها هامسا أمام فمها :- ما رأيك بجولة ترويض ساخنة يا نمرتي خضراء العينين
دون أن ينتظر جوابها قبلها بحرارة أذابت عظامها .. ضمها إليه حتى أحست بصدره الصلب يضغط على صدرها بقوة .. تخللت أصابعه خصلات شعرها الكثة وتحركت شفتاه فوق فمها وكأنه يفرغ مشاعر قوية لم يعرف كيف يخرجها إلا بهذه الطريقة .. بدا لها لوهلة كالرجل العاجز المتمسك بقشة وهو يستجدي منها التجاوب بلمساته الحارة ابتعد عنها أخيرا وهو يقول لاهثا :- من الآن فصاعدا .. لن ترتدي قميصا مقفلا عندما نكون معا
حاولت السيطرة على نبضات قلبها وأنفاسها العنيفة بسبب هجومه السابق وهتفت :- ستفاجأ بالأشياء الصغيرة التي دستها حنان في الحقيبة وهي تظنني لا أراها .. أظنها ستعجبك
لوى فمه الجميل بابتسامة كثيرة وهو يقول :- وأنا أظن الحقيبة وما تحويه ستبقى كما هي خلال الأيام القادمة
أطلقت شهقة ضاحكة عندما حملها بين ذراعيه متجها بها نحو غرفة النوم .. فتح الباب دون أن ينزلها .. ودخل بها ليراقب بتلذذ ردة فعلها وهي تحدق حولها مذهولة في الغرفة التي أضاءتها عشرات الشموع العطرة الرائحة .. و السرير الضخم الذي فرش بوريقات الورود القانية الحمرة .. نظرت إلى زوجها الذي همس وهو يقفل الباب بقدمه ويقودها إلى السرير :- أهلا بك في الجنة يا حبيبتي
تقييم المساهمة: 100% (1)
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 15:40
الفصل الثالث والعشرون
إلى الأرض
انتهت الأيام الثلاث وكأنها حلم .. وعادت نانسي مع محمود إلى البيت في مساء اليوم الرابع وهي تشعر بالحزن لانتهاء شهر العسل الرائع الذي قضته مع محمود .. لقد ظنت بأنها لا يمكن أن تحب محمود أكثر مما فعلت ولكنها كانت مخطئة .. الأيام التي قضياها معا أثبتت لها بأنها لا تحبه فحسب .. بل تعشقه بجنون .. كانت سعيدة جدا وهي تنام فوق صدره بعد أن عادا إلى البيت .. وأكثر سعادة عندما قال لها :- أنا أكثر منك أسفا لانتهاء عطلتنا يا عزيزتي .. أعدك برحلة أطول قريبا ..
صباح اليوم التالي احست بقبلته في وقت مبكر للغاية .. نظرت إليه بعينين ناعستين فرأته قد ارتدى ملابسه استعدادا للذهاب إلى العمل .. همست متذمرة :- هل أنت مضطر للذهاب ؟
ابتسم قائلا :- بقائي في البيت لن يطعمنا خبزا .. سأحاول ألا أتأخر .. وأنت عديني بأنك ستدرسين في غيابي
أومأت برأسها موافقة .. فقبل جبينها ثم غادر الغرفة .. فتقلبت برضا وهي تفكر ..أدرس !.. لا أعدك يا زوجي العزيز فأنا من سيطهو لك العشاء هذا المساء
استيقظت متأخرة .. وكان أول ما فعلته هو الذهاب إلى المطبخ لتناول إفطار سريع والتحدث ‘إلى الطاهية حول العشاء.. اتفقت معها على كل شيء ووضعت معها قائمة بما تحتاجه فرحبت تلك بمساهمة سيدة البيت في المطبخ وتشوقت لمساعدتها .
صعدت لرؤية الجدة وقد استبد بها الشوق للحديث معها والتماس بعض الحنان منها .. فرأتها تحت رحمة الممرضة التي انهمكت في حقنها بإبرة ما في ذراعها .. إلا أنها أحست على الفور بوجودها فقالت وهي تنزل أكمامها بصوت مشرق :- صباح الخير يا نانسي .. كم أنا سعيدة لسماع صوتك .. أرجو أن تكوني قد استمتعت برحلتك مع محمود
قالت نانسي بخجل :- هل أخبرك ؟
:- بالتأكيد .. يزورني محمود كل صباح مهما كان مستعجلا .. تعالي واجلسي إلى جانبي وأخبريني .. هل أعجبك منزل محمود الجبلي .. لم أذهب إليه قط رغم محاولاته الكثيرة لإقناعي .. فأنا لا أحتمل ساعات السفر بالسيارة
قالت نانسي باسمة :- خسارة .. لكنت أحببته كثيرا ..
اطل الدفء من عيني المرأة العجوز وهي تقول :- أنا سعيدة لأنكما قد تمكنتما من حل مشاكلكما أخيرا .. لا تسأليني عن الطريقة التي عرفت فيها .. فصوت محمود بدا مختلفا منذ أيام .. إنه سعيد ومرتاح البال وأنا لم أره بهذا الشكل منذ سنوات طويلة .. وأنت أيضا تبدين أكثر استرخاءا .. الحمدلله أنني قد عشت لأرى حفيدي سعيدا أخيرا
سالت دمعة ساخنة من عيني الجدة فأسرعت نانسي تقول بصوت أجش :- لا تبكي يا جدتي .. أعدك بأننا لن نتشاجر مجددا .. ومحمود سيظل سعيدا إلى الأبد
مسحت الجدة دمعتها قائلة :- أهذا يعني أنني سأحظى بأحفاد جدد قريبا
احمر وجه نانسي حرجا إذ أنها لم تفكر بأمر الأطفال مطلقا .. ولكنها تمتمت :- بالتأكيد
لم تعرف نانسي إلى أي حد تسرعت في إطلاق الوعود للجدة حتى ذهبت إلى غرفة المكتب حيث جلست خلف مكتب محمود الكبير في محاولة للدراسة إرضاءا لزوجها .. مر بها الوقت دون أن تدري وهي تتصفح الأوراق وتكتب الملاحظات .. وتحاول استيعاب الدروس المتراكمة .. حتى أنها لم تشعر بأنها لم تعد وحيدة إلا متأخرة
رفعت رأسها إلى ريم التي وقفت عند الباب تنظر إلى نانسي بكراهية شديدة أجفلت نانسي التي تماسكت وقالت بهدوء :- أهلا بك يا ريم .. لا يبدو مزاجك جيدا اليوم .. هل طار منك عريس جديد ؟
برق الحقد في عيني الفتاة وهي تتقدم إلى داخل ا لغرفة وتصفق الباب خلفها مما جعل نانسي تقفز من مقعدها متحفزة .. قالت ريم بغضب :- تظنين نفسك ذكية للغاية بانتصارك الباهت هذا .. ما أسهل أن تجعلي رجلا مجنونا بك فور ان تمنحيه ما يريد وتكونين له الساقطة التي يحتاجها .. إلا أن العبرة في احتفاظك بتعلقه يا عزيزتي
قالت نانسي متأففة :- ألا تملين من محاولاتك الفاشلة هذه في التفريق بيني وبين محمود .. انسي أمر الرجل .. فهو لا يريدك .. ل ا ي ر ي د ك .. كم من الصعب استيعاب هذه الكلمة
قالت ريم بغل متجاهلة كلام نانسي :- إلى أين أخذك هذه المرة ؟ هه .. إلى منزله الجبلي الصغير الحميم .. هل أعد لك وجبتك المفضلة .. وأشعل المدفأة ناشرا في المكان جوا رومانسيا كاذبا .. هل أشعل لك الشموع ونثر الورود فوق سرير الزوجية
تجمدت نانسي وهي تنظر إلى الحقد المطل من كل خلجات الفتاة .. فقالت بغضب :- هل تتجسسين علينا يا ريم ؟ كم دفعت للعائلة المسؤولة عن الاهتمام بالمنزل كي تعرفي بعقلك المريض ما حدث بالضبط بيني وبين محمود
ابتسمت ريم أخيرا بتشفي وهي تقول :- عن أي عائلة تتحدثين يا عزيزتي .. أنا لم أسأل أي أحد .. لقد عرفت بنفسي ما حدث بالضبط .. أتعرفين كيف ؟ لأنه تماما ما كان يفعله محمود لأجلي قديما عندما كان يأخذني إلى الكوخ دون علم عائلتي .. نعم يا عزيزتي .. لا ألومك على ذهولك .. فعلاقتي بمحمود كانت بهذا العمق .. لقد كنا حبيبين منذ الصغر .. وبعد نضوجنا لم يستطع إبعاد يديه عني كعادته كلما تواجدت أمامه امرأة جميلة .. لقد كنا نتقابل خارجا كلما أتيحت الفرصة لنا دون أن نشعر أحدا ممن حولنا .. التقينا في شقته في المدينة .. وفي المنزل الجبلي .. وفي مكتبه بالجامعة .. في أي مكان لا تصل إليه العيون ..
شحب وجه نانسي وكادت ساقاها تخوناها وهي تستند إلى طرف المكتب وتصيح بثورة :- أنت تكذبين .. تكذبين وبوقاحة أيضا .. لابد أنك مريضة نفسيا لتختلقي قصصا شائنة حول نفسك وحول ابن عمك .. محمود ما كان ليفعل هذا أبدا
ارتسمت ابتسامة مرارة على فم ريم وهي تقول :0 وهل أنت متأكدة ؟ هل تعرفين زوجك جيدا كما تتوهمين ؟ .. ألم تلاحظي بنفسك مدى شراهته الجنسية ورغبته التي لا تنتهي .. محمود لا يستطيع العيش بلا امرأة إلى جانبه .. لقد فطر على أن يحصل على ما يريد وقد كنت أنا لفترة طويلة ما أراد وسعى إليه .. هل تصدقين بأن رجل مثله قد يمنع عن نفسه فتاة جميلة تعيش تحت سقفه حتى لو كانت ابنة عمه .. حتى خلال زواجكما وتمنعك الواضح عنه .. وجد بي بديلا ومنفسا عن حاجاته .. أم أنك تظنينه ذهب إلى المنزل الجبلي أثناء غيابه وحيدا ؟؟؟؟ لقد كنت معه يا عزيزتي .. لقد لحقت به يوم رحيله ومكثت معه ليلة كاملة ..
تذكرت نانسي مذعورة .. هذا صحيح .. في اليوم التالي لرحيله رحلت ريم أيضا .. لقد قالت العمة منار بأنها ستمكث عند أقاربها لليلة واحدة .. هل كانت مع محمود ؟ لا .. مستحيل
قالت نانسي ب عنف :- أنت تكذبين .. إن كان كلامك صحيحا فلماذا تركك وتخلى عنك وتزوج بي .. لو كان يحبك ومازال يريدك لما تزوج بغيرك
قالت ريم وفي عينيها ألم كبير :- أنا لا أتحدث عن الحب يا عزيزتي .. محمود لا يعرف أبدا كيف يحب .. إنه يرغب فقط .. وقد تخلى عني حقا كما تقولين .. أتعلمين لماذا ؟ لأنني منحته ما يريد .. لأنني لم أمنع نفسي عنه كما كان علي أن أفعل .. لقد منحته كل شيء .. كل شيء .. ولهذا فقط تجدينني أجلس مثل الأرض البور في انتظار من يأخذها .. لأنني لم أعد متاحة لأي رجل آخر .. لقد أخذ محمود ما يريده ثم انسل من بين يدي خارجا عندما مل مني .. بكل بساطة وبكل هدوء .. توقف عن الخروج معي .. بالكاد صار يتحدث إلي .. وانتقل لمعاشرة فتاة أخرى تشكل له شيئا من التحدي .. هذا هو أسلوبه يا نانسي .. لقد انتقل من فتاة إلى أخرى أمام عيني بنفس الطريقة حتى سقط في شرك نسرين .. نسرين هي المرأة المناسبة له .. وهو ما أسكتني وجعلني أتوقف عن انتظاره .. فهي أكثر من أثار جنونه بجمالها وقوتها وأصلها العريق .. لقد كانت ندا له في كل شيء حتى أنه كاد يتزوجها .. الكل كان يعرف بأنه سيتزوجها في النهاية حتى جئت أنت
عاد الحقد يطل من عينيها ويشبع كلماتها التي سقطت فوق رأس نانسي المذهولة :- لقد جاء بك من لا مكان وجعلك زوجته .. هكذا بدون مقدمات .. كعادته لم يمنح نسرين أي توضيح .. لم يقطع علاقته بها حتى بشكل لائق .. لقد سمعت بنبأ زواجه من الآخرين كما كنت أراه بنفسي وهو يتنقل بين أذرع الأخريات .. أنت دون غيرك تمكنت من الحصول على لقب زوجة .. ما الذي فعلته حتى استحققت هذا اللقب .. هل تمنعت كثيرا .. هل وجدك من النوع الصعب التنازل ووجد بأن الزواج بك أسهل طريقة للحصول عليك .. هل كنت قطة شرسة كثيرة الخدش وأدخلت إلى حياته الحماسة والإثارة التي كان ينشدها ؟ ولكن إلى متى ؟ فها هو قد حصل على ما أراد .. وأصبحت طوع بنانه .. وانضممت شئت أم أبيت إلى قائمة فتوحاته .. لا تتوقعي أن يمنحك أي إشارة قبل أن يبدأ بغزوة جديدة يا عزيزتي .. ستسمعين بهذا بنفسك من مصادر أخرى كما فعلت العشرات
تراجعت نانسي وقد تجمعت دموع الصدمة في عينيها وهي غير قادرة على استيعاب ما تقوله ريم .. همست بذهول :- لماذا تخبرينني بهذا ؟ لماذا تقولين لي هذا الكلام البشع ؟
ارتجفت شفتا ريم وهي تقول :- لماذا ؟ .. لأنها الحقيقة .. لأنك ستعيشينها عاجلا أم آجلا .. أردت أن تعرفي ما ينتظرك مستقبلا .. أن تفهمي ما أحسه لأنه ستحسينه بنفسك في وقت قريب .. ستعرفين شعور المرأة العاشقة المنبوذة وهي ترى رجل حياتها يسعى خلف نساء أخريات بينما هي تخفي عارها عن أقرب الناس إليها غير قادرة على تفسير رفضها للزواج .. ستعرفين ما معنى أن تصبح المرأة كالكرسي القديم عديم الفائدة عندما يرميها رجلها في القبو كالنفاية عندما تنتفي حاجته إليها
كانت صوت ريم يتهدج أثناء كلامها ويزداد انفعالا .. حتى أجهشت في البكاء منهارة بعد انتهاء كلماتها فلم تستطع نانسي الصمود أكثر .. أسرعت تخرج من الغرفة كالمجنونة وتصعد إلى غرفتها مغلقة الباب ورائها وتستند إليه لاهثة .. لا .. ريم كاذبة .. إنها كاذبة كبيرة .. محمود يحبها هي .. ولن يفعل بها هذا أبدا
تذكرت دموع ريم وانهيارها .. لا يمكن أن يكون هذا تمثيلا .. تذكرت اللوم في نظرات نسرين وهي تحدثه في الحفلة .. تذكرت استنكار هديل عندما عرفت بزواجه وكأنه كان محجوزا لأخرى .. تذكرت نظراته التي افترست نسرين رغم وجودها على بعد أمتار عنه وكأنه لا يعترف بحرمة وجود زوجة له تقف إلى جانبه .. وكأن زواجه لا يعني أن يمنع نفسه عن المتع الأخرى المتاحة .. تذكرت الطريقة التي صبر بها عليها حتى نال ما أراد .. وما قاله لها عندما نفذ صبره .. إنه يعرف جيدا كيف يجعل فريسته أكثر شهية باللعب بها ومنحها كل الوقت قبل أن يأكلها .. وقد أكلها في لقمة واحدة .. كم كانت سعادته كبيرة عندما وجدها في انتظاره تفتح له ذراعيها مرحبة ومستسلمة أخيرا ..
كم سيمر من الوقت قبل أن يمل منها ومن استسلامها ويسعى خلف أخرى
استبد بها الذعر حتى كادت تصاب بالهستيريا .. لا .. محمود لها .. لها وحدها .. ستموت لو تخلى عنها أو خانها .. لن تحتمل الألم والعذاب وهي تسمع بغزواته بعيدا عن البيت
لم تعرف كم ظلت تقف ذاهلة مكانها حتى طرقت حنان الباب وهي تقول :- نانسي .. هل أنت هنا ؟ لقد أحضرت لك غداءا
فتحت الباب فذهلت حنان لشحوب وجهها .. وضعت الصينية على الطاولة واستدارت قائلة بقلق :- ما الأمر يا نانسي ؟ هل أنت مريضة ؟
نظرت نانسي إلى وجه حنان الطيب .. هل تخبرها بما عرفته من ريم ؟ هل تخيب أملها بعد أن أحست بالراحة أخيرا لسعادة الفتاة التي تربت إلى جانبها والتي تشعر بمسؤوليتها اتجاهها .. ابتلعت ريقها قائلة :- لا .. متعبة قليلا فحسب .. كما أنني لست جائعة .. سأنتظر حتى العشاء
قالت حنان بابتسامة ماكرة :- العشاء الذي تنوين إعداده لحبيب القلب ... هل يعرف الدكتور محمود أي حظ يناله بتنازل نانسي راشد شخصيا ودخولها إلى المطبخ خصيصا للطهي له
منحتها نانسي ابتسامة مرتعشة وهي تقول :- .. سيعرف قريبا
عندما بقيت وحدها ظلت تحوم في الغرفة كالمجنونة .. ماذا تفعل ؟ هل تواجهه ؟ هل ترمي في وجهه ما عرفته من ريم عنه ؟ .. وهل ستحتمل الحقيقة إن رماها في وجهها ؟ تذكرت اعترافه بتأثره بنسرين .. محمود لا يكذب .. ولن يتردد في تأكيد أقوال ريم .. لا .. لن تحتمل الحقيقة .. ولن تحتمل أيضا أن تمثل دور البلهاء فتمنحه ما يريد حتى يتركها أخيرا .. أمسكت رأسها وقد شعرت بالدوار من فرط التفكير .. ثم انتهى بها الأمر إلى البكاء كما فعلت ريم بالضبط ألما وحيرة
وفت بوعدها رغم ما تحس به من تشوش .. وأعدت وجبة لذيذة مع الطاهية حاولت أن تنسى خلال عملها فيها كل الواقع .. ولكنها تذكرته كله حين عاد محمود في المساء .. ودخل إلى المطبخ بحثا عنها ليجدها منهمكة في إعداد اللمسات الأخيرة للوجبة .. فوجئت العاملات من دخوله النادر الحدوث إلى المطبخ .. وراقبنه بجذل وهو يقبل رأس نانسي التي لم تشعر به إلا في تلك اللحظة .. قال برقة وهو ينظر إلى وجهها الذي لطخته بقعة من الصلصة :- الشائعات صحيحة إذن .. وزوجتي تطهو لي العشاء .. ألست محظوظا ؟
أحست بالغضب يطفو ليغطي على الألم .. ألن يحب أن يرى القطة المتوحشة وهي تتحول إلى دجاجة تجري وراءه كالمعاقة بحثا عن رضاه .. كبتت توترها وقالت :- من الأفضل أن تخرج كي لا تفسد المفاجأة
رغم محاولتها لإخفاء مشاعرها إلا أنه كان حساسا للغاية بالنسبة لمزاجها .. فعرف فورا بأن ثمة ما يشغلها فابتسم على الفور وقال :- حاضر يا سيدتي .. سأخرج وأنتظر بفارغ الصبر تذوق ما صنعته يداك
عندما خرج .. اسندت نانسي نفسها إلى طاولة المطبخ بتعاسة .. لكم يؤلمها قربه منها .. مجرد لمسه لها كفيل بجعل ساقيها تتحولان إلى هلام .. فكيف ستصمد إن لمسها مجددا
قدمت نجوى العشاء بينما اجتمعت العائلة كلها حول المائدة باستثناء ريم .. بررت العمة منار قائلة :- إنها متعبة اليوم .. الصداع لا يفارقها
قال محمود بقلق :- هل تحتاج إلى طبيب ؟
:- لا أظن .. بعد ليلة من النوم الجيد ستشفى تماما
نظرت نانسي إلى وجه زوجها الجالس إلى جانبها وهي تتساءل بتوتر عن سبب قلقه الشديد ... أهو قلق ا بن عم طبيعي .. أم قلق رجل على حبيبته السابقة
لاحظ نظراتها فمنحها ابتسامة دافئة لم تستطع الرد عليها .. بل غاصت في طبقها وأخذت تأكل وكأن حياتها متوقفة على الطبق الموجود أمامها .. قال العم طلال باسما :- أهنئك يا محمود .. زوجتك ليست جميلة فحسب .. بل طباخة ماهرة
قال محمود وهي يأكل دون أن تفارقها نظراته :- لا أحتاج إلى من يذكرني بـأنني محظوظ
لم تستجب نانسي هذه المرة أيضا إلى مداعبته .. بل لم تنظر إليه على الإطلاق .. وبعد العشاء صعدت إلى غرفتها متعللة بالتعب .. فلحق بها محمود بعد دقائق وقد كانت قد بدلت ملابسها واستعدت للنوم
قال بقلق وهو يلمس جبينها وهي ممددة فوق السرير :- هل أنت بخير ؟ ما الذي يؤلمك بالضبط ؟
أشاحت برأسها بعيدا عن يده قائلة بجفاف :- أحتاج فقط إلى أن أنام
تأملها بهدوء ثم قال متفحصا :- ما الأمر يا نانسي ؟ الأمر يتعدى التعب .. هناك ما يزعجك
قالت بنزق :- ما دمت تعرف هذا .. فلم لا تتركني أنام بسلام ..دون أن ترهقني بأسئلتك
أمسك بذقنها الدقيق وأجبرها على النظر إليه .. وقال بقسوة :- راقبي كلماتك جيدا يا نانسي عندما تخاطبينني
لمسته كادت تفقدها صوابها .. خلال لحظة تذكرت كل اللحظات الحلوة التي جمعت بينهما .. ثم تذكرت كل ما قالته لها ريم فشعرت بفؤادها يتمزق .. كيف يستطيع أي انسان أن يظهر كل هذا الحب لشخص دون أن يعنيه حقا .. كيف له أن يكون رقيقا معه بذلك الشكل ثم يقدم بكل قسوة على خيانته
فاضت دموعها رغما عنها .. وظهر حزنها الشديد وهي تهمس بصوت مرتجف :- أرجوك يا محمود .. أرجوك .. أريد فقط أن أنام
اختفت قسوته بنفس السرعة التي ظهرت بها .. وظهر التعاطف في عينيه الدافئتين وهو يربت على وجنتها قائلا :- سأتركك تنامين الليلة دون أن أزعجك إذن ..
راقبته وهو يخرج من الغرفة مغلقا الباب خلفه بهدوء .. فانزوت نانسي حول نفسها تبكي بصمت وهي تهمس بألم :- ماذا أفعل يا إلهي .. ماذا أفعل ؟
استمرت نانسي في تجاهل محمود ومنعه من لمسها لعدة أيام بعد ذلك .. في كل مرة كانت تمنحه أعذارا مختلفة حتى طفح الكيل به ذات ليلة فانفجر بها قائلا :- إياك أن تستعملي إحدى حججك الواهية يا نانسي .. أعرف بأن هناك ما يشغلك ويجعلك تتمردين وسوف تخبرينني به الآن
قالت بوقاحة وهي تتملص منه كالعادة وتتراجع بعيدا عنه وتقف أمامه متحدية :- كم أنت مغرور .. لماذا لا تقول بأنني وبكل بساطة لم أعد أطيق لمستك .. وأنني أنفر في كل مرة تقترب فيها مني ؟
قال محاولا كبت غضبه :- لأنني أعرف بأن هذا غير صحيح .. منذ أيام كنت تذوبين بين ذراعي عندما كنا وحيدين في المنزل الجبلي .. هل أنت غاضبة لأنك كنت راغبة في بقائنا هناك أكثر ؟ لقد سبق ووعدتك بأنني سأعوض عليك لاحقا
قالت بانزعاج واضح :- بالله عليك .. لا أحتمل حتى مجرد التفكير ببقائي معك في مكان واحد .. فكيف سأفكر بالعودة إلى هناك بصحبتك
لم يعد قادرا على احتمال غضبه فسحبها إليه متجاهلا مقاومتها الشرسة وقال وهو يكبل حركتها :- ستتكلمين الآن وتخبرينني بالضبط عما يزعجك .. لقد أوضحت لي سابقا بأن المنزل الجبلي قد أعجبك وبدوت سعيدة جدا عندما كنا هناك .. ولن أتركك حتى تخبرينني بما غيرك
حاولت ضربه بقدمها فمنعها بسحبها نحوه أكثر .. وعندما أحست بحرارة صدره وصلابته أحست بنفسها تكاد تجن من مجرد التفكير بريم في الوضع ذاته فصرخت فجأة بغضب :- بكل بساطة أنا لن أعود إلى مكان يكاد ينفجر من حرارة ذكريات نساء أخريات
عبس قائلا بغضب :- هل أنت مجنونة ؟ من أين أتيت بهذه الترهات ؟ عن أي نساء تتحدثين
سمح لها فجأة بالابتعاد فأصلحت قميص نومها المحتشم وهي تنظر إليه تكاد تنفجر غيظا من كذبه الصريح .. فصاحت به كالمجنونة :- هل تنكر بأن امرأة غيري قد ذهبت إلى ذلك المكان معك يا محمود ؟ دعني أطرح السؤال بطريقة أخرى .. عندما تركت البيت وذهبت إلى هناك ل3 أيام كاملة .. هل تستطيع القول بصدق بأنك كنت وحيدا طيلة هذه الأيام الثلاثة ؟
لاحظت تلك النظرة التي تجمدت في عينيه .. والشحوب الذي علا وجهه وهو يقول :- ما الذي قالته لك ريم بالضبط؟
أحست نانسي وكأن صفعة قاسية قد سقطت على وجهها .. وطعنة نجلاء اخترقت صدرها بلا رحمة .. لقد كان معها .. لقد اعترف الآن بشكل غير مباشر بأنه قد كان معها ..
تراجعت وهي تهز رأسها وتحاول جاهدة منع الدموع التي تجمعت داخل عينيها من الهرب .. قالت كالمذهولة :- يا إلهي .. أنا حتى لا أستطيع النظر إليك .. لا أستطيع حتى البقاء في مكان واحد معك
اندفعت نحو الباب فأسرع يعترض طريقها قائلا بتوتر :- إلى أين تذهبين ؟
انكمشت رافضة أن يلمسها بأي طريقة فلاحظ جيدا ردة فعلها وهي تقول :- سأنام في غرفة لينا .. لا أريد النوم معك تحت سقف واحد
زمجر قائلا من بين أسنانه :- أنت لن تتحركي من هنا حتى نتحدث يا نانسي
حاولت تجاوزه فأمسك بها .. قاومته وهي تصرخ كالمجنونة بينما حملها هو إلى السرير ورماها فوقه بقسوة .. وعندما حاولت القفز عنه مجددا عاد يمسك بها ويكبل يديها تحت ثقله فنظرت إلى وجهه الغاضب وصاحت بثورة حاقدة :- أنا أكرهك يا محمود فاضل .. أكرهك وأتمنى لو أنني لم أعرفك يوما .. ولن أنام معك في غرفة واحدة ولو كلفني هذا حياتي
قال بلهجة مخيفة :- احذري ما تقولينه يا نانسي لأنني قد أدفعك لتمني الموت حقا إن استمريت بالتصرف كالمجنونة .. أنت لن تغادري هذه الغرفة .. ولن تنامي في سرير آخر .. وأنا لن أجري وراءك مجددا كما أعتدت أن أفعل منذ قابلتك .. إن رفضت الاستماع إلي فإنني لن أرغمك .. ولكنني أقسم بأنني لن أكتفي بضربك إن قللت يوما من احترامي أو أسأت إلي أمام الآخرين .. أتفهمين ما أقول ؟
التقت عيناهما في نظرات تحدي قوية كادت تفجر الغرفة بما فيها .. نظر إلى وجهها المحمر من الغضب .. والنيران الخضرا في عينيها الجميلتين التين نطقتا بالكراهية الخالصة .. فأخذ نفسا عنيفا وهو يقول :- يا إلهي .. أظنني أنا لن أستطيع البقاء معك في مكان واحد
تركها فجأة .. وغادر الغرفة كالعاصفة دون أن يقول أي كلمة إضافية ..
أما نانسي .. وكأنه صار جزءا من روتين ما قبل النوم بالنسبة إليها .. دست رأسها في وسادتها الوثيرة .. وأجهشت في البكاء
تقييم المساهمة: 100% (1)
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 15:40
الفصل الرابع والعشرون
نظرت نانسي بشرود عبر نافذة السيارة في طريقها إلى الجامعة .. وهي تشعر بنفسها مستنزفة تماما هذه الأيام .. منذ مواجهة ريم لها بالحقائق عن محمود .. وشجارها معه .. وهي تعيش ولا تعيش في ذلك المنزل الكئيب .. حتى مكالمات لينا الفرحة لم تساهم في منحها البهجة والسرور
وكيف لها أن تفرح .. بتعامل محمود البارد معها وكأنها هي المذنبة .. كان يخرج صباحا قبل استيقاظها ولا يعود حتى وقت متأخر .. بالكاد كان يتكلم معها أو حتى ينظر إليها .. وهي كانت تشعر به كل ليلة عندما يعود إلى البيت .. ويندس إلى جوارها في السرير حاسبا إياها نائمة .. بينما هي على وعي كامل بكل تحركاته وحتى بأنفاسه وهو يتقلب إلى جوارها قبل أن يستغرق في النوم .. لم تعد تحب الخروج من غرفتها .. وبالكاد كانت تتناول الطعام الذي تحضره لها حنان .. كانت غاضبة .. وحزينة .. ومتألمة من الشكوك التي زرعتها فيها ريم بكلامها .. ريم التي توقفت فجأة عن التحدث مع نانسي ومحاولاتها الحثيثة في إفساد حياتها .. وكأنها قد أدت رسالتها ولم تعد بحاجة لفعل المزيد .. قد تكون كاذبة .. وقد يكون كل ما قالته مجرد تلفيق لا أساس له من الصحة دافعه الحقد والحسد .. وقد يكون واقعا
كيف ستعرف نانسي الحقيقة بعد أن تخلت عن فرصة الاستماع إلى محمود .. محمود الذي تخلى تماما عن محاولاته لإرضائها
وكأن شهر العسل القصير الذي قضياه معا لم يحدث قط .. وكأنه لم يعترف لها بحبه يوما .. هل خسرت محمود نهائيا هذه المرة ؟ .. نزلت من السيارة أمام بوابة الجامعة .. وراقبت مأمون وهو يبتعد مانعة نفسها من اللحاق به وأخذها معه .. فمن المفترض بها أن تعود برفقة محمود اليوم .. كيف ستراه .. وترافقه .. وتشاركه السيارة .. كيف ستنظر إلى وجهه وهي ترى بعين الخيال ريم بين ذراعيه .. تنعم بما نعمت به هي من العاطفة ؟
لم تستطع حضور محاضرته .. لم تستطع النظر إليه أو تلقي نظراته الباردة كلما التفت نحوها .. لم تستطع رؤية زميلاتها المهووسات به يلتهمنه بأنظارهن متجاهلات كونه متزوج .. وكأن زواجه يشكل فارقا بالنسبة إليه
جلست في الكافيتيريا باكتئاب تنتظر مرور الوقت .. ولم تشعر إلا بماهر يطل عليها برفقة ندى قائلا بقلق :- نانسي .. لقد انتظرناك طويلا .. لماذا لم تحضري المحاضرة ؟
رفعت نظرها الذابل إليه وهي تتمتم :- أشعر بصداع شديد .. ففضلت البقاء هنا
جلس كما جلست ندى التي قالت :- هل تحتاجين إلى أي شيء ؟ ربما من الأفضل أن تعودي إلى البيت
قال ماهر بحزم :- سأوصلك .. هيا بنا
هزت رأسها بأسف قائلة :- لا أستطيع .. سأقابل محمود بعد قليل لنعود معا
وقفت قائلة وهي تحاول أن تطمئنهما بابتسامتها :- سأكون بخير .. لا تقلقا
لم تفتها نظرة ماهر المتشككة .. فهو يشعر منذ فترة بأنها تعاني بصمت رافضة مشاركة أحد في معاناتها .. كالعادة كان ماهر أفضل من يفهما في العالم .. أما كان وضعها أسهل لو أنها وقعت في حبه هو ؟
.. جرت قدميها جرا إلى الخارج حيث رأتها مجموعة من زميلاتها .. ألقين عليها التحية وبدأن بسؤالها عن حياتها بفضول .. قالت إحدى صديقاتها :- من المثير أن تكون الفتاة زوجة لرجل كالدكتور محمود .. أخبريني يا نانسي .. هل تقيمين كما يقول البعض في قصر منيف يعود لعائلته ؟.. كم أنت محظوظة
أسرعت أخرى تقول بخبث :- ومن يبالي بالمنزل بحق الله .. أراهن على أنه عاشق من الطراز الأول .. أليس كذلك يا نانسي ؟ هيا .. لا تخفي الأمر علينا
آخر ما تريد نانسي استعادته هو ذكرى حب محمود العاصف .. فتمتمت معتذرة منهن بهدوء .. وتركتهن متجهة نحو مكتب زوجها .. صعدت الدرج ببطء .. وذبول كالشاة المساقة إلى الذبح .. سمعت صدى الأصوات الصادر من مكتبه قبل حتى أن تصل إليه .. كان محمود هناك .. يجلس خلف مكتبه بوقار وقد أحاطت به ثلاث من زميلاتها تطرحن عليه الأسئلة المختلفة .. بينما يجيب هو عنها بهدوء .. وقفت نانسي بعيدا وهي تراقب نظرات الفتيات الولهى المعلقة به .. بينما بدا هو غافلا تماما عن هوس طالباته به .. وحدها نانسي أحست باحمرار وجوه الفتيات تأثرا عندما ضحك لتعليق إحداهن .. عندها .. لم تستطع التحمل أكثر .. وقد تغلب غضبها وغيرتها على حزنها .. فدخلت إلى المكان بغطرسة تليق بنانسي راشد .. ووقفت تنظر إلى المشهد الدائر أمامها ببرود شديد .. فور أن رأينها الفتيات .. ارتسمت نظرات الحسد والحقد على وجوههن وهن يعتذرن من محمود ويغادرن المكتب .. بينما وقف هو متناولا معطفه قائلا ببرود يماثل نظراتها :- جاهزة ؟
أومأت برأسها بتوتر وهي تراقبه يحمل حقيبته ويقفل باب المكتب فور خروجهما .. سارت إلى جانبه بصمت عبر أروقة الكلية أمام أنظار الجميع .. رغم كل شيء .. لم تستطع منع إحساسها بالفخر لكونه زوجها هي .. كما لم تستطع منع نفسها من الاعتراف بالأمان الذي تحسه معه .. إلى جواره هي آمنة .. ولن يصلها أحد على الإطلاق .. ولن يجرؤ أحد على أذيتها .. تكره هذا الإحساس بحاجتها الماسة إليه .. وكأنها لن تستطيع العيش بدونه لحظة واحدة .. هل هي ضعيفة إلى هذا الحد ؟ إلى حد الصمت على إذلال زوجها وخيانته لها بسبب حبها الشديد له ؟
في سيارته الفارهة .. قال ما إن انطلق بالسيارة ببرود :- لماذا لم تحضري المحاضرة اليوم ؟ أين كنت تتسكعين بدلا من الاستماع إلى نقاط مهمة قد تنفعك في الامتحان ؟
تمتمت بجفاف :- لقد شعرت بصداع مفاجئ
قال بجفاف :- صداع .. أم أنك كنت تلهين مع زملاءك
قالت بنزق :- لقد رأيت ماهر في المحاضرة اليوم .. وهذا يعني أنني لم أكن أتسكع مع أحد
انقبضت أصابعه حول المقود وقد أغضبته إشارتها إلى مدى عمق علاقتها مع ماهر .. قال بصرامة :- لا تتوقعي مني المساعدة عندما تجدين نفسم في مأزق مع قرب الامتحانات وأنت عاجزة عن دراسة ما فاتك
قالت بغل وصورة الفتيات الهائمات المحيطات به لا تفارق خيالها :- اطمئن .. لن أطلب منك المساعدة .. فقد رأيت بنفسي في مكتبك ما تقوم به من أعمال خيرية
نظر إليها بطرف عينه وهو يقول بصرامة :- شعورك بالغيرة ليست مبرر أبدا لوقاحتك يا نانسي .. احذري
أغضبها تخمينه الصحيح لشعورها القاتل بالغيرة .. فمطت شفتيها قائلة بازدراء :- أنا اغار ؟ وممن ؟ لا يا دكتور محمود .. يمكنك أن تحظى بتالكم الذي تريده من المعجبات الحمقاوات والعشيقات الذائبات في هواك .. انا لا أهتم لو عاشرت نصف نساء المدينة .. النساء اللاتي يكتفين بانتظار إشارتك عن بعد استعدادا لتلبية رغباتك .. يتمنين أن ينظرن ولو من بعيد إلى منزلك المقدس المحرم عليهن .. ذلك المنزل الكئيب الغارق في الكراهية والحقد .. والذي أكره كل زاوية فيه .. يحسدنني على نيل شرف اختيارك لي كزوجة غير عارفات للحقيقة المرة وراء استاذ الجامعة المحترم
أطبق فمه بقوة كابتا ردا غاضبا على استفزازها .. اكتفى بأن قال من بين أسنانه :- إياك ان تتكلمي عن منزلي بتلك الطريقة يا نانسي.. فأنت لا تساوين قيمة أصغر حجر فيه .. وما كنت تستحقين أبدا ان أدخلك إليه كزوجة لي على الإطلاق
قالت بحدة :- أرجوك .. وكأنك حقا تعاملني كزوجة .. أنت تعاملني كما تعامل عشيقاتك الكثيرات المستميتات في حبك ناسيا شيئا واحدا .. وهو أنني لم أرغب يوما بأن أكون زوجتك .. وأنني أكره ذلك اليوم الذي اقترنت فيه بك .. وربما كنت أحسد تلك الفتيات اللاتي حرمن من معرفة أي انسان أناني وانتهازي انت .. الفتيات اللاتي كنت تكتفي بلقائهن العابر في شقتك تلك التي تأبى ذكرها .. شقة العزوبية التي ما زالت تقوم بمهامها رغم زواجك مني
بالكاد تمكن محمود من تفادي سيارة اعترضت طريقه قادمة من شارع جانبي .. تأكدت نانسي من إحكام حزام الامان حولها وثد تذكرت بان محمود يتجنب دائما الجدال اثناء القيادة .. وقد عرفت الآن السبب .. فغضبه الشديد في هذه اللحظة يكاد يدمر ما تبقى من سيطرة لديه على نفسه .. حتى على سيارته .. قال من بين أسنانه وهو ينظر أمامه :- ألا أعاملك كزوجة يا نانسي ؟ ربما كنت حقا مخطئا منذ البداية عندما جعلت منك زوجة لي دون غيرك من النساء.. كان من الأفضل ان أختار الطريق الأسهل واحصل على ما أريده منك مقابل مساعدتي لك .. وأخرجتك من حياتي إلى الأبد
طعنتها كلماته في الصميم .. وجعلتها تنظر إليه قائلة بوحشية :- أتمنى لو انك فعلت .. لما كنت اضطررت للعيش معك وتحمل نزواتك ..
كلماتها الوقحة كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير .. قال بغضب عاصف :- احذري مما تتمنينه يا نانسي
انحرف فجأة بالسيارة مغيرا الطريق .. فنظرت عبر النافذة قائلة بتوتر :- إلى أين تأخذني ؟
وجهه الوسيم كان مكسوا بناع محكم من القسوة وهو يقول بصرامة :- إلى اين تظنين ؟ .. إلى الشقة التي تبجحت أمامي بمعرفتك عنها .. المكان الذي آخذ إليه أمثالك .. ما دامت معاملتي لك كزوجة لا تعجبك .. فستعرفين حالا كيف تعامل العشيقة .. أنت ستكونين منذ الآن عشيقتي الخاصة .. جاريتي المسؤولة عن فعل أي شيء لإسعادي
صاحت بانفعال :- هذا لن يحدث أبدا
ثال :- لقد طفح الكيل .. لأشهر وأنا أحرص على مشاعرك وأحاسيسك وأحتمل ما يفوق طاقتي من عجرفتك وكبريائك .. وغرورك الزائد .. وقاحتك وقلة احترامك فاقا الحد .. وقد حان الوقت لتدفعي الثمن .. ولتعرفي بالضبط مكانتك الحقيقية
أوقف السيارة امام مبنى جميل الشكل مكون من ثلاثة ادوار في أحد الأحياء الراقية ... خرج من السيارة وسحبها كم ذراعها ليخرجها مرغمة من مكانها .. قاومته بيأس وهو يجرها عبر البوابة المعدنية المزخرفة وهي تقول بعنف :- اتركني يا محمود .. أنا لا أريد ان أذهب معك
ولكنه كان غاضبا بشكا لم تره عليه إلا مرة واحدة .. عندما أخذها بالقوة لأول مرة .. اتسعت عيناها ذعرا عندما أدركت نواياه .. فتحولت مقاومتها إلى محاولات عنيفة للإفلات منه .. قبضته القاسية لم تتركها .. وفرق القوة بينهما جعل صعوده بها الدرج إلى الطابق الثاني مهمة سهلة للغاية .. فتح باب الشقة بمفتاح خاص .. ودفعها إلى الداخل .. نظرت حولها مرتجفة دون ان ترى إلى المساحة الواسعة للشقة المرفهة .. كانت حديثة الأثاث بديكور عصري جميل .. التفكير بالنساء اللاتي قصدن هذه الشقة مرارا برفقته جعلت دماؤها تفور .. وعقلها يكاد يجن .. وقف امامها كالجدار المنيع مانعا إياها من الوصول إلى الباب .. بالبريق الغاضب في عينيه .. والتصميم في ملامح وجهه .. قال بصرامة :- اذهبي إلى غرفة النوم .. وحضري نفسك لإرضائي صرخت وهي تنكمش مذعورة :- أنت مجنون .. للابد ان تكون مجنونا .. أخرجني من هنا فانا أريد العودة إلى البيت
خلع معطفه وسترته وهو يقول بحزم :- أنت لن تتحركي من هنا حتى تمنحينني ما أريد يا نانسي .. ستذهبين إلى غرفة النوم .. وتخلعين ملابسك .. وتنتظرينني كأي عشيقة محترفة .. وإلا اقسم بأنك ستندمين أشد الندم على عصيانك لي
تجمعن دموع الخوف في عينيها وهي تنظر حولها بعجز .. ثم تنظر إلى جسده الضخم الذي فاحت منه العدائية والتصميم .. وركضت نحو الباب دون تفكير في محاولة منها للفرار
إلا انه امسك بها بسهولة .. وحكلها بين ذراعيه نحو غرفة نوم واسعة بسرير عريض مغطى بمفرش أنيق أزرق اللون .. أنزلها أرضا فأسرعت تنزوي في نهاية الغرفة وقد تدفقت دموعها وهي تصيح بهستيريا :- إياك أن تلمسني .. أنا لا أحب أن تلمسني
عيناه الجائعتان مشطتا جسدها المغطى بالملابس البسيطة .. قال لها بجفاف :- سألمسك يا نانسي .. وأنت ستحبين لمستي . تمتنين لها أيضا .. اخلعي ملابسك
في تلك اللحظة .. انهار جدار القوة الذي كانت نانسي حريصة دائما على إحاطة نفسها به في وجه الازمات .. ووجدت نفسها تنهار هذه المرة بكل ما تشعر به داخلها من وحدة وألم وضعف شديد .. تعالى نشيجها وهي تقول بانهيار :- أرجوك لا تفعل هذا بي .. ليس بهذه الطريقة .. ليس مجددا
لم تؤثر به دموعها مثقال ذرة .. قال بصرامة :- أنا لن أرغمك يا نانسي .. فليس هناك من يغتصب عشيقته .. انت ستاتين إلي .. وستفعلين ما أريد.. وبالشكل الذي أريد .. كما تفعل أي جارية لسيدها
سرعان ما كانت ازرار قميصه قد حلت تماما .. فخلعه عنه وهو يكرر بصرامة :- اخلعي ملابسك يا نانسي
تراجعت إلى الخلف وهي تنظر إليه مصدومة .. غير قادرة على التفوه بحرف أمام قسوته التي لم تعهدها .. بصدره العاري ووحشية نظراته .. كان يبدو لها مخيفا جدا .. أشبه بالوحش الكاسر الجاهز للانقضاض على فريسته .. عندما لم تصدر عنها اي حركة .. قطع المسافة بينهما وأمسك بتلابيب قميصها ومزقه بحركة حادة مبعدا إياه عن كتفيها .. وقبل أن تتمكن من الابتعاد عنه جذبها إليه .. والتفت أصابعه حول شعرها بقسوة وهو ينظر إلى عينيها الدامعتين بخوف ..وفمها المرتجف ..وهو بقول بصوت خافت :- ستكونين لي هذه المرة يا نانسي .. ستكونين لي حتى لو اهتزت جبالك رفضا
أحنى رأسه يلتهم شفتيها بوحشية بينما جرت يداه فوق جسدها المرتعش بقسوة .. ثم دفعها بخشونة نحو السرير مجردا إياها مما تبقى من ملابسها
في النهاية .. حصل محمود على ما أراده بالضبط .. حصل على خضوع نانسي الكامل .. تحت تأثير الصدمة .. وبفعل قسوته عليها التي جرحت كيانها بلا رحمة .. تمكن محمود من إطفاء شعلة القوة التي حافظت عليها لفترة طويلة داخلها .. كانت له ما أراد .. وفعلت كل ما أمرها به .. بجسد لا روح فيه .. وقد خلا لقائهما هذه المرة من الكلمات الرقيقة واللمسات الحانية التي أغدقها عليها في الماضي .. محمود الذي احبت وعشقت اختفى وحل حله وحش ضاري لم تعرفه من قبل .. كل ما اراده هو إشباع حاجاته بلا عاطفة او حب .. تركها في النهاية شبه محطمة عندما ابتعد عنها أخيرا .. رقدت نانسي كالخرساء وهي تنظر إليه يرتدي ملابسه بكل هدوء وهو يقول ببرود :- ارتدي ملابسك .. سأوصلك إلى البيت فلدي موعد مهم يجب أن الحق به
وكأن هذه الكلمات كل كانت تحتاجه بالضبط لتفوق على الواقع .. وتدرك تماما ما حدث للتو .. تصاعدت محتويات معدتها فجاة إلى حلقها فتحركت بلا تفكير نحو باب جانبي مؤدي إلى الحمام .. شعرت وكأنها نفرغ جسدها من روحها وهي تفرغ معدتها الفارغة أساسا في الحوض .. قبل ان تنهار على الأرض باكية وهي تتمنى ان تختفي في هذه اللحظة في أي جحر بعيد وتموت .. سمعت محمود يقول :- هل انت بخير ؟
نظرت إليه عبر دموعها .. ولاحظت وجوك وجهه الشاحب .. والقلق يعصف في عينيه وهو ينظر إليها من حيث يقف عند باب الحمام .. إذن .. فحبيبها محمود ما زال موجودا هناك .. في مكان ما تحت قناع القسوة الذي يرتديه في هذه اللحظة .. وقفت بصعوبة دون ان ترد عليه .. وغسلت وجهها الذابل بالماء البارد .. ثم التفتت لتجده قد اختفى .. عادت إلى الغرفة وارتدت ملابسها بآلية .. ثم ضمت قميصها الممزق إلى صدرها وهي تفكر بالطريقة التي ستخرج فيها بهذا المظهر .. انتفضت فجأة مجفلة عندما أحست بمعطف محمود يحط فوق كتفيها .. وسمعت صوته الجامد يقول :- ضعي هذا عليك
لولا حاجتها لما يوفره لها معطفه من سترة لرمته بعيدا عنها هربا من رائحة عطره التي غمرتها .. ساد الصمت بينهما طوال الطريق إلى البيت .. وبمجرد ترجلها من السيارة .. انطلق هو بها مبتعدا وكأنه لا يحتمل قضاء لحظة أخرى برفقتها .. دخلت المنزل بخطوات متثاقلة .. وحمدت الله على أن احدا لم يكن موجودا ليشهد معالم ذلها وانحطاطها .. وقد شعرت بأن محمود قد وسمها بمعاملته القاسية مدى الحياة
عندما دخلت إلى غرفتها أخيرا .. تركت المعطف يقع أرضا حول قدميها .. ودخلت فورا إلى الحمام .. تخلصت من ملابسها .. ووقفت تحت سيل المياه الساخنة تاركة إياها تلسع جسدها بلا رحمة .. وكأنها تمحي عنها آثار قسوته وحبه الجاف .. أخذا تبكي بلا انقطاع تحت المياه الحارة .. تبكي حبها الضائع .. وكرامتها الضائعة .. وكبريائها الذي انتهى على يدي محمود .. تبكي والديها الذين رحلا وتركاها وحدها بلا قريب أو معين .. تبكي وحدتها وحاجتها الشديدة إلى صدر حنون يحتويها
ارتدت قميص نومها وتكومت فوق السرير ترتجف من الحمى .. لا .. لم تكن حمى جسدية .. بل حمى نفسية أحست بأنها لن تنتهي .. دخلت إليها حنان بضع مرات بالطعام وقد اخافها وضعها المزري .. وامتناعها عن الأكل .. ورفضها للتحدث عما حدث وتركها حطاما وبقايا لما كانته
أطل الليل .. وازداد ارتعاش نانسي .. سيعود محمود بين لحظة وأخرى .. سيعود لترى نظرة الاحتقار في عينيه .. ستستمع إلى كلماته المهينة مجددا .. التفكير به يلمسها ويهينها بنفس الطريقة كادت تصيبها بالهستيريا .. وعندما احست أخيرا بوصوله في ساعة متاخرة من الليل .. ادارات ظهرها وتظاهرت بالنوم .. بينما كان قلبها يخفق بقوة كادت تفضحها .. سمعت تحركانه العنيفة .. حفيف ملابسه وهي تلقى أرضا بإهمال .. كانت اعصابه متحفزة تماما كأعصابها .. دخل إلى الحمام وغاب لفترة سمعت خلالها صوت المياه فتخيلت جسده الكامل الرجولة تحت المياه الغزيرة مما جعل الشوق اليائس يجتاحها .. كيف لها ان تحب رجلا وتشتاق إليه وتكرهه في الوقت ذاته ؟
حبست انفاسها عندما غادر الحمام .. ودس نفسه في السرير إلى جوارها .. لوقت طويل لم تجرؤ نانسي على النظر إليه حتى تأكدت من انتظام انفاسه .. استدارت ببطء .. ونظرت إلى وجهه النائم المواجه لها .. كان وجهه شاحبا ومرهقا .. وقد ظهرت الخطوط بين حاجبيه وحول فمه .. هل يتعذب كما تتعذب بسييه ؟
تأملت ملامحه الوسيمة .. ووجدت نفسها تتذكر الأيام السعيدة التي قضياها معا .. والحب الصادق الذي غمرها به ..
ما الذي حدث لينتهي الحلم ويبدأ الكابوس البشع الذي تعيشه .. تدفقت دموعها وهي تهمس بألم .. لو تعرف كم أحبم .. لو تعرف كم أكرهك .. لو تعرف فقط ما تسببه لي من ألم يا حبيب القلب
كتمت فمها بيدها كي لا يعلو نشيجها .. وأغمضت عينيها في محاولة منها لإيقاف سيل الدموع اللانهائي .. لم تعرف كم من الوقت استمرت في البكاء .. إلا انها عندما فتحت عينيها اخيرا .. شهقت بخشونة عندما رأت محمود ينظر إليها عبر الظلام وقد كسا الوجوم وجهه وبرقت عيناه الداكنتان وهكا تتفحصان كل دمعة تقطر منها .. منذ متى كان مستيقظا ينظر إلى بكائها المهين ؟
قبل أن تفكر .. هتفت بصوت مختنق :- أكرهك
اهتزت عيناه وكأن تصريحها قد ضربه بقوة بين ضلوعه .. ثم قال بصوت أجش :- أنا أيضا أكرهك
بانكسار وثقل .. استدارت نانسي بعيدا عنه كي لا يرى فورة دموعها الجديدة .. إلا انه أمسك بكتفها فجأة .. وسحبها إليه دون أن يترك لها الفرصة للاعتراض .. وخلال لحظة كانت محاصرة بين ذراعيه .. ووجهها مدفون في صدره الدافئ .. إحساسها بحنانه الذي طال شوقها إليه جعل حذرها يطير مع الهواء ..ووجدت نفسها تجهش بالبكاء بلا تحفظ هذه المرة
مرر يده عبر شعرها الناعم وهو يهمس في أذنها بصوت معذب :- انا آسف يا حبيبتي .. أعدك بحمايتك ورعايتك .. ثم اعود لأؤذيك مجددا
ازداد نحيبها قوة .. وكأن همساته تخرج كل الضغط الذي عانت منه خلال الأشهر الأخيرة .. انهالت قبلاته على رأسها وشعرها .. ثم أبعد وجهها ليقبل عينيها الدامعتين ووجنتيها المبتلتين .. رغم كل ما تشعر به من تعب نفسي .. كانت لمساته الحانية وقبلاته كل ما احتاجت إليه كي تستسلم لحبها وشوقها إليه
إنه حبيبها محمود يعود إلى الحياة مجددا .. يمنحها ما تحتاج إليه من حب وحنان .. فهل تستطيع الاعتراض ؟
عندما تناول شفتيها بين شفتيه .. وقبلها بعنف يائس .. تشبثت به وبادلته قبلاته بالضراوة نفسها .. وقد ألغت صوت العقل تماما من حساباتها .. فما يهما الآن هو حاجتها الماسة لان تشعر وبو كذبا بأن الرجل الذي تحب هو لها .. لها وحدها
تقييم المساهمة: 100% (1)
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 16:04
الفصل الخامس والعشرون
لا مزيد
كانت نانسي وحيدة عندما استيقظت صباحا ..هبت مجفلة فوق السرير .. ونظرت حولها بتوتر عبر الغرفة الفارغة .. ثم ضمت الملاءة إلى جسدها العاري وهي تستعيد بذل ذكرى ليلة الأمس .. لقد استسلمت له تماما .. منحته نفسها روحا وجسدا بكل ضعف وخضوع .. ما حدث بعد ظهر امس داخل شقته قد تكرر مجددا وهذه المرة برضاها التام .. وبدون أي ضغط منه .. صحيح ان الأمر كان مختلفا .. إذ غمرها محمود بمشاعره العاصفة والعنيفة وكأنه بفرغ كل يأسه وإحباطه اللذين استمرا طويلا .. لمساته المتلهفة كانت بعيدة تماما عن الحنان رغم كلمات الشوق الجارفة التي أمطرها بها
لقد فعلها مجددا .. أليس كذلك ؟ لقد أثبت لها من جديد الصورة التي يراها فيها .. ودون حتى أن تعترض هذه المرة
هل نجح محمود في ترويضها اخيرا؟ .. هل انتهت نانسي راشد التي عرفتها لعشرين عاما وبدأت أخرى بالكاد تبدو مثلها ؟
جرت نفسها من السرير جرا وقد استخرجت ما تبقى داخلها من قوة وكرامة .. ودخلت إلى الحمام بقرار ضعيف بالاستمرار في المقاومة .. أي شيء .. أفضل بالتأكيد من الحطام الذي بدأت ترى نفسها تتحول إليه
لا .. نانسي راشد لا تستسلم بسهولة .. أليس كذلك ؟
مشطت شعرها المبلل خلف رأسها .. وارتدت فستانا أزرق بسيط التصميم .. بالكاد تمكنت من وضع شيء من الزينة على وجهها بيديها المرتعشتين .. فمواجهة محمود ثانية تتطلب منها القوة والشجاعة .. خاصة بعد ما حدث بالأمس .. تمنت لو أن اليوم لم يكن عطلته الأسبوعية .. تمنت لو تنزل إلى الأسفل لتجد أنه قد ذهب إلى الشركة لسبب طارئ .. ولكنها ستواجهه عاجلا ام آجلا .. ولتكن المواجهة بين افراد العائلة حيث يمكنها التسلح بحرصها على مظهرها امامهم .. بدلا من محاصرته لها بين أربعة جدران فتفقد قوتها مجددا أمامه
نزلت الدرج ببطء وهي تنظر حولها بحذر .. لم تر أي شخص بعد وكأن أحدا لم يستيقظ رغم تأخر الوقت .. وجدت غرفة المكتب مفتوحة .. فسمعت صوت محمود يتحدث إلى شخص ما مما جعل قشعريرة قوية تسري في جسدها .. رغم رغبتها في الهرب بعيدا عن طريقه .. إلا انها لم تستطع مقاومة إلقاء نظرة سريعة نحوه دون ان يشعر .. وكأنها ترغب في النظر إليه وقراءة مشاعره قبل أن تواجهه
اقتربت بحذر وهي تدرك من كلامه بأنه ليس وحيدا .. ولم تعرف إلا متأخرة بان محدثه لم يكن إلا ريم .. تراجعت إلى الخلف وهي تكتم فمها بيدها كي لا تطلق صرخة ألم مدوية تهز أركان المنزل .. وبدون ان تفكر .. قفزت تعتلي الدرج نحو غرفتها مجددا .. حيث اخرجت حقيبة كبيرة من داخل الخزانة .. وبدأت تلقي فيها أغراضها كالمجنونة .. قبل أن يخذلها جسدها المرتعش .. وينهار أرضا في نوبة بكاء مريرة عجزت عن السيطرة عليها .. لقد راته بعينيها هذه المرة .. لم تكن إحدى أكاذيب ريم 00 أو إحدى شائعات الكلية .. لقد رأت ريم تجلس في حجره على مقعده الجلدي الكبير .. قبل أن يتبادلا تلك القبلة الساخنة غير مدركان لمراقبتها لهما
ما الذي تنتظره بعد أن رأت خيانته بأم العين ؟ ان يصارحها بها ؟ ما الذي تبقى لها في هذا المكان ويوقفها عن الرحيل ؟ حبها لمحمود ؟ فلتحل اللعنة على هذا الحب إن لم يكن يستحقه .. وإن كانت ستدفع ثمنه من كرامتها وكبرياءها
تمالكت نفسها .. ومسحت دموعها وقد اشتدت عزيمتها .. ونهضت تتابع بإصرار جمع حوائجها الضرورية في الحقيبة .. حتى انها لم تشعر بمحمود يدخل إلى الغرفة وينظر مذهولا إلى ما تفعله .. انتفض جسدها عندما دوى صوت انصفاق الباب العنيف .. ودوى صوت محمود يصرخ بحدة :- ما الذي تفعلينه ؟
نظرت إلى غضبه الشديد واستنكاره .. فلم تستطع إلا ان ترى ريم بين أحضانه تقبله بشغف .. فتماسكت وهي تقول بعنف :- كما ترى يا محمود .. أنا راحلة .. لن ابقى في هذا المكان دقيقة واحدة .. سأتركك وأطلب الطلاق لأنني لن أستطيع العيش معك اكثر
قطع المسافة بينهما ليمسك بذراعيها ويمنعها من إكمال ما تقوم به ..وهزها بقسوة صائحا بغضب :- انت لم تذهبي إلى أي مكان .. وأنا لن اطلقك أو أسمح لك بالرحيل .. انت ستبقين هنا ما دمت انا اقول هذا
حاولت التملص منه وهي تصيح :- بل ستطلقني يا محمود .. وأنا سأغادر هذا المكان وبلا رجعة هذه المرة
شدها إليه وهو يقول من بين أسنانه :- إلى أين ستذهبين ؟ فأنت لا تملكين مكانا تلجئين إليه سوى هذا المنزل .. أنا هو وسيلتك للعيش بكرامة يا نانسي أم انك نسيت
تذكيره لها بطريقة زواجهما جعلها تفقد أعصابها وتصيح بجنون :- كرامة ..رامة بقيت لي في العيش تحت سقف منزلك الكريه يا محمود ؟ ..أفضل الف مرة ان أجوب الشوارع متسولة اللقمة على ان أعيش معك لحظة أخرى .. لقد سئمت .. سئمت من كل شيء .. من عجرفتك وغرورك وخيانتك الصريحة لي .. من نظرتك الدونية التي لن تتوقف أبدا نحوي .. من عائلتك التي أكلها الغل والحقد.. عمتك التي كرهتني لظنها بانني سأحتل مكانها كسيدة للمنزل .. ريم المتربصة بك في الزوايا تنتظر دورها كأي ساقطة رخيصة كي تنال نصيبها منك .. عمك الغامض الذي لا يكف عن منحي ذلك الإحساس بانه يكيد لي .. لقد سئمت .. سئمت ولن احتمل هذا الوضع أكثر
لم تعرف بانها استغرقت في احتقاره وعائلته حتى هوت كفه على وجنتها تصفعها بقوة كادت ترميها أرضا لو لم يكن ممسكا بها .. اتسعت عيناها رعبا عندما كادت نيران الغضب الملتهبة في عينيه تحرقها .. راقبت كلماته القاسية وهي تنساب من فمه :- أنت لا تتعلمين يا نانسي .. مهما حدث تظلين تلك الفتاة المغرورة والمتكبرة السليطة اللسان التي تحتقر جميع الناس وتمعن في إذلالهم ناسية بأنها ابنة لص حقير مات في السجن .. وأنها لولا إحساني لسلكت طريق والدها نفسه بحثا عن الرفاهية ورغد العيش اللذين اعتادت عليهما .. إياك أن تهيني عائلتي مجددا يا نانسي لأن ظفر أصغرهم يساوي لدي كل ما تملكين
أحست نانسي بثقل كبير يطبق على أنفاسها .. وبطنين يدوي في أذنيها .. وغثيان قاومته حتى اللحظة الأخيرة وهي تضربه بقبضتيها على صدره بكل ما تبقى لديها من قوة وهي تهتف بانهيار :- إياك أن تتحدث عن أبي ..أنا أكرهك .. أكرهك
لم تسمع ما قاله محمود ردا على تصريحها .. فقد لفها الظلام خلال لحظة .. ووجدت نفسها تغرق بدون مقدمات في عالم اللاوعي
فتحت نانسي عينيها دفعة واحدة وهي تشهق مذعورة .. للحظة .. ظنت بأن كل ما حدث كان كابوس مريع .. تصريحات ريم الفظيعة .. إذلال محمود لها وقسوته عليها .. المشهد الغرامي الذي جمع بين ريم ومحمود .. خاصة عندما وجدت نفسها نائمة على سريرها ترتدي أحد قمصان نومها الدافئة .. بدون أي أثر حولها للحقيبة التي بدأت بتوضيبها .. إلا أن وخزة الألم في خدها أفاقتها على الواقع .. ما حدث لم يكن حلما .. كل لحظة مذلة عاشتها على يدي محمود كانت حقيقة .. الشعور بالألم القاتل عاد ينهشها مجددا وهي تتذكر كل ما حدث .. انتهاءا بصفعة محمود القوية .. كلامه المهين .. مهما فعلت .. فهي لن تضاهي قيمة عائلته لديه .. وريم ستبقى دائما بينهما مهما حاولت إبعادها
نهضت بسرعة .. وبدلت ملابسها بيدين مرتجفتين .. ارتدت أول ما وجدته أمامها .. سروالا من الجينز .. وكنزة زرقاء .. نزلت الدرج بحذر دون أن تصدر أي صوت .. سمعت صوت محمود فتجمدت مكانها .. ارتجفت أوصالها وتزايدت سرعة أنفاسها وهي تسمعه يتحدث من غرفة الجلوس بشيء من الانفعال .. تجاوزت الباب بسرعة نحو باب المنزل .. وخرجت لتجد حنان برفقة مأمون .. يتبادلان الحديث أمام السيارة .. التفت الاثنان نحوها متفاجئين من وجودها .. قالت حنان بقلق رغم اللون الوردي الذي كسا وجنتيها :- ما الذي تفعلينه هنا يا نانسي ؟ لقد قال الطبيب ....
أسرعت نانسي تقاطعها بحدة :- ما الذي تفعلينه أنت هنا ؟ تثرثرين مع السائق وكأن لا عمل لديك تأخذين عليه أجرا
فتحت حنان فمها مذهولة من الهجوم المفاجئ . . في حين التفتت نانسي نحو مأمون قائلة :- أنت .. جهز السيارة
قال بارتباك :- آه .. نعم .. سأبلغ الدكتور محمود ثم ...
قاطعته صارخة بجنون :- هل تجرؤ على معارضتي ؟ أقسم بأنني إن لم تتحرك في هذه اللحظة وتنفذ ما أقول سأصرخ كالمجنونة متهمة إياك بالتحرش بي
نقل نظرات الذهول بين نانسي وحنان التي أومأت له بعينيها مؤكدة بان مخدومتها لا تمزح ... فأسرع يجلس خلف المقود مستسلما وهو يدعو الله ألا يخسر وظيفته .. بينما جلست هي في المقعد الخلفي وهي تتذكر المرة السابقة التي غادرت فيها البيت على إثر صفعة محمود .. هل كان عليها أن تعرف منذ ذلك اليوم الاتجاه الذي ستسير عليه علاقتهما ؟ هل كان عليها ان تغادر البيت بلا رجعة منذ عرفت الشكل الذي يراها فيه محمود .. والسهولة التي فضل فيها ريم وعائلته عليها ؟
كانت ترتجف وهي تخفي وجهها بيدها .. دون ان تدرك كم كانت تبدو شاحبة وضعيفة لمأمون الذي أخذ ينظر إليها عبر المرآة بقلق دون أن يجرؤ على قول كلمة .. طلبت منه التوقف فور دخوله المدينة .. وترجلت من السيارة غير مبالية بصراخه ومحاولته اللحاق بها ليعرف وجهتها .. أو وقت عودتها .. استقلت اول سيارة أجرة وانطلقت بها بعيدا عن الرجل الذي حاول العودة إلى سيارته ليتقفى أثرها بعد فوات الأوان .. إذ كانت نانسي قد اختفت تماما من أمام عينيه .. فلم يجد امامه غير الاتصال عبر هاتفه بمحمود ليبلغه بالأخبار السيئة
وقفت نانسي شاردة الذهن على أحد الأرصفة تراقب السيارات الرائحة والغادية .. والناس تسير من حولها دون ان تشعر بهم . حتى سمعت صوتا مألوفا يقول :- نانسي !
التفتت نحو ماهر الذي نظر إليها بقلق وهو يقول :- لقد أتيت بأسرع ما استطعت .. ما الأمر ؟
رؤيتها لماهر الحبيب .. بالعقدة الدائمة بين حاجبيه ..في عينيه .. جعلت ألمها يتجدد مرة أخرى .. ارتجفت شفتها السفلى .. وتدفقت الدموع من عينيها .. ووجدت نفسها تندفع نحوه رامية نفسها بين ذراعيه وهي تبكي بمرارة أجفلته وأثارت ذعر وهو يمسك بها ويقول :- نانسي ما الذي حدث ؟
لاحقا .. وداخل أحد المقاهي المتواضعة .. طلب لها ماهر شرابا دافئا عل ارتجاف جسدها يتوقف .. ثم نظر إليها منتظرا بصمت أن تفضي ما لديها .. بينما أمسكت هي بالكوب الساخن يديها تنظر إلى السائل الذي تصاعد منه البخار وكأنها تبحث عن طريقة تبدأ بها حديثها .. فلم تجد إلا أن تدخل مباشرة في صلب الموضوع :- لقد تركت منزل محمود يا ماهر.. ولن اعود إليه مجددا
صمت ماهر لدقيقة كاملة لم تجرؤ خلالها على النظر إليه .. حتى قال بهدوء :- أهو من سبب لك هذه الكدمة ؟
امتدت يدها تلقائيا نحو موضع الصفعة وقد احمر وجهها إذلالا للذكرى .. عادت الدموع تتجمع في عينيها فمنعتها بعزيمة من الانهيار .. وتمتمت :- وهل يشكل هذا فارقا ؟ حياتي مع محمود قد انتهت .. أي تفاهم بيننا مستحيل تماما .. وأنا أفضل أن أموت أولا قبل أن أعود إلى ذلك المنزل
قال بلطف :- ألا تستطيعين إخباري بأي شيء ؟ سيريحك هذا قليلا .. وأنت تعلمين بأنني مستمع جيد .. كما أنني لن أستطيع مساعدتك إن لم أفهم الموضوع
هزت رأسها وهي تغمغم :- مشاكلي مع محمود أكبر من أن تشرح بالكلمات .. كما أنني لا أبحث عمن يفهم مشاكلي ويحاول حلها لي .. ما أريده هو ان أنسى محمود تماما وكانه لم يدخل إلى حياتي يوما
تأمل وجهها الشاحب بإمعان .. وقارن نانسي الجالسة أمامه بتلك التي عرفها لسنوات .. نانسي الجميلة الفخورة والقوية .. الفتاة الجالسة أمامه لم تكن إلا نسخة باهتة عنها .. ما الذي فعله محمود فاضل ليدمر نانسي راشد وقد فشلك كل ظروفها في تحقيق هذا ؟
تمتم :- ما الذي تنوين فعله الآن ؟
وضعت الكوب من يدها قائلة بتوتر :- لا أعرف .. لم أفكر بالأمر عندما خرجت من هناك .. كان همي الأكبر هو الرحيل قبل أن يتمكن محمود من منعي .. كل ما أردته هو ترك ذلك المنزل حتى وأنا اعرف بانني لا أمتلك مكانا يأويني .. حاجتي إليه هي ما أبقاني معه كل هذا الوقت .. حتى انه ...
احتبست الكلمات في حلقها إذ لم تستطع أن تواصل الكذب .. فما أبقاها لم يكن حاجتها إليه .. بل حبها له .. حبها الذي لم يستحقه أبدا
كتمت فمها بيدا كي لا يخرج النشيج منه .. بينما انهمرت الدموع بلا توقف مما جعل ماهر الذي لم ير نانسي باكية حتى عندما توفي والدها .. يرتبك ويعجز عن قول أي شيء لمواساتها .. تركها تفرغ مافي داخلها للحظات قبل أن يقول :-
هيا بنا يا نانسي .. لنذهب من هنا
مسحت دموعها وهي تهمس :- إلى أين ؟
:- أنت لست مضطرة لإخباري بمشاكلك مع الدكتور محمود يا نانسي .. ولكن إياك أن تفترضي عدم وجود من تلجئين إليه في الأزمات .. أنا معك دائما .. وبيتي مفتوح لك في اي وقت تريدين ... أنت ستأتين معي .. وتمكثين مع والدتي وشقيقتي حتى ترتبي أمورك كلها
نظرت إليه بارتباك إذ كان اللجوء إلى أي أحد لطلب المساعدة أمر جديد عليها .. ولكنه لم يترك لها مجالا للتفكير والتردد .. وقف راميا حفنة من الأوراق المالية على الطاولة .. وقال لها بحزم :- هيا يا نانسي .. أنت متعبة وبحاجة لنيل قسك من الراحة
لم تجادله أكثر .. فقد كانت بحاجة شديدة لإيجاد صدر حنون يحتويها ويحميها حتى من الرجل الذي تحبه بجنون . وقد وجدت هذا الصدر لدى ماهر كالعادة ..
مجددا يثبت لها ماهر بأنه الشخص الوحيد الجدير بصداقتها واحترامها .. شعرت بالراحة والاطمئنان وهي تقف .. وتسمح له بالتربيت على كتفها برفق أثناء خروجهما من المقهى في اتجاه سيارته الحمراء الصغيرة .. في اتجاه المجهول
تقييم المساهمة: 100% (2)
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 16:05
الفصل السادس والعشرون
أين أنت ؟
مضى أسبوع تقريبا منذ مغادرة نانسي منزل محمود بلا رجعة .. ثمانية أيام مرت على اختباءها في شقة ماهر الصغيرة .. بين أمه الطيبة وشقيقتيه اللطيفتين
كانت مفاجأة السيدة رجاء كبيرة عندما عاد ماهر ذلك المساء إلى البيت برفقة نانسي .. استغرابها لم يطل كثيرا .. فهي تعرف مسبقا بانها إحدى اقرب أصدقاء ماهر .. أما عندما عرفت ظروفها ولاحظت دموعها الجافة وشحوبها .. سرعان ما أخذتها بين ذراعيها واحتوتها تحت جناحها وكأنها أحد أولادها .. وعلى الفور بدأت حملة تغذية مكثفة على الفتاة الشديدة النحول .. اهتمامها الشديد جعل نانسي تبكي أكثر من مرة وقد نسيت كيف تكون الحياة مع حنان أم كالسيدة رجاء .. شقيقتي ماهر .. لبنة وهي في التاسعة عشرة .. ولمياء وهي في الخامسة عشرة .. استقبلتاها في البداية بتحفظ وفضول .. سرعان ما اختفيا مع طبيعتهما المندفعة والصادقة .. احتلت نانسي سرير لمياء التي انضمت إلى لبنة في سريرها الضيق بلا تذمر .. ثم صارحتها الأختان لاحقا بانهما لطالما تشوقتا للقاءها بسبب حديث ماهر الدائم عنها .. حتى انهما ظنا لفترة طويلة بأن ما يربطه بها يزيد عن الصداقة مما فاجأهما عندما سمعتا بنبأ زواجها
لأول مرة منذ أشهر طويلة تحس نانسي بانها وسط عائلتها .. وسط أشخاص يحبونها ويحترمونها بغض النظر عن تاريخ وخزي والدها .. حتى أن أحدهم لم يسألها عن سبب شجارها مع محمود .. وهي لم تتحدث عنه لأنها لم ترغب في الإساءة إليه رغم كل ما فعله بها .. ولأن حديثها عنه لن يسبب لها سوى الألم والاذلال
السيدة رجاء سألتها أكثر من مرة إن كان هناك أي طريقة لتسوية الأمر مع زوجها .. فهي كسيدة تقليدية الطراز تؤمن بأن مكان المرأة يجب أن يكون مع زوجها .. ولكنها احترمت رغبة صديقة ابنها المقربة
لم يتوقف محمود عن الاتصال بها لحظة واحدة منذ تركها المنزل .. مرة بعد مرة طوال الليل والنهار .. دون أن تتعب نفسها بالرد عليه ولو لمرة .. منعت ماهر من البوح بمكانها لأي أحد خشية وصول محمود إليها .. لأنه إن فعل فهو قادر بسلطته عليها ان يعيدها مجددا مستغلا ضعفها اتجاهه وحبها له .. وماهر رغم اعتراضه وإصراره على انها يجب أن تراه وتتفاهم معه.. أو تطلب الطلاق منه صراحة على الأقل .. إلا انه احترك قرارها ورفضها للذهاب إلى الجامعة .. وحرص على تزويدها بكل ما تحتاج إليه من كتب للدراسة بدلا من شغل عقلها بالتفكير الذي ظهرت آثاره عليها واضحة .. ورغم تقديرها لجهوده فإن نانسي بالكاد كانت قادرة على فهم حرف واحد مما كانت تقرأه .. بينما عقلها مشغول تماما بالرجل الذي تركته خلفها هاربة .. يقاطع تفكيرها بين لحظة وأخرى رنين هاتفها باتصال آخر منه يستجدي منها الرد بلا فائدة .. أو رسالة نصية منه تستفهم عن مكانها
كانت ما تزال صاحية في وقت متاخر من الليل عندما أصدر هاتفها أزيزا معلنا عن وصول رسالة جديدة .. على ضوء الأباجورة الوحيدة المضاءة في الغرفة الصغيرة على المنضدة الفاصلة بين سريرها والسرير الذي ضم كل من لمياء ولبنة
رفعت الهاتف وقرات الكلمات المختصرة ( أين أنت ؟ أخبريني فقط بأنك بخير )
أغمضت عينيها بقوة مانعة نفسها من البكاء وهي تعيد الهاتف إلى مكانه دون ان ترسل أي رد كالعادة .. فسمعت صوت لمياء يقول :- أهي رسالة جديدة منه ؟
نظرت نانسي إلى الفتاة التي اعتدلت جالسة وقد ظهر عليها القلق فاومأت برأسها قائلة :- آسفة لأنني أيقظتك
:- لم أكن نائمة منذ البداية .. ألن تردي عليه هذا المرة أيضا ؟
نظرت نانسي إلى الهاتف وهي تتساءل .. ماذا ستقول له ؟ أي اتصال به كفيل بان يسبب لها الانهيار .. وقد بذلت جهدا كبيرا لتتماسك مجددا وتحاول استعادة قوتها .. تمتمت :- ليس هناك ما أقوله له
قالت لمياء بفضول :- هل تكرهينه إلى هذا الحد ؟
نظرت نانسي إلى الفتاة الصغيرة . كانت في مثل عمر لينا .. أصغر حجما ومختلفة بشعرها البني الداكن وعينيها الشبيهتين بعيني ماهر.. إلا أنها كانت أكثر نضوجا بكثير من عمرها .. وجدت نانسي نفسها تقول :- لا .. لا أكرهه على الإطلاق ... بل أحبه كما لن أحب أي انسان آخر في حياتي
قالت لمياء بحيرة وعدم فهم :- لماذا تركته إذن ما دمت تحبينه ؟
تنهدت نانسي وهي تتساءل عن الطريقة التي تستطيع فيها الإجابة عن هذا السؤال .. ثم تذكرت كلمات حنان التي ما زالت تدوي في أذنيها وكأنها قد سمعتها البارحة وقالت :- لأنني أحبه بجنون تركته .. لو أن حبي له لم يكن بهذه القوة .. لوجدت طريقة أبقى فيها معه
وكانت احتملت بطريقة ما مشاركة الأخريات لها به .. أهذا ما احسته حنان عندما تركت حب حياتها ورحلت دون اعتبار لآلام قلبها ؟
هزت لمياء رأسها دون فهم قائلة :- لن أطلب منك تفسيرا .. أظنها إحدى تعقيدات الكبار كما تقول لبنة .. مع انني أصر على أنك يجب أن تحاربي لأجل الفوز بالشخص الذي تحبين
قالت نانسي برقة :- هل تظنين هذا حقا ؟
:- ما أسهل السيطرة على الرجل باستعمال بعض الدهاء .. لقد قرأت هذا في مجلة ما وأطبقه دائما مع ماهر .. لهذا فهو لا يستطيع رفض أي طلب لي .. بعكس لبنة التي لا تتوقف عن الشجار معه
ضحكت نانسي وقد أدهشتها طريقة تفكير الفتاة الصغيرة فقالت :- أنت أكبر بكثير من عمرك
قالت لمياء بزهو :- هذا ما تقوله أمي .. كما أنها وماهر يظنان بأنني أتحدث دائما قبل أن أفكر .. هل تظنينهما محقين ؟
ارتفع رنين الهاتف مجددا فنظرت الفتاتان إليه وهو يتراقص مكانه وقد تصدر اسم محمود الشاشة الصغيرة المضاءة .. قالت لمياء بتعاطف :- أظنه قلق عليك
قلق .. كان بإمكان هذا ان يثير تعاطف نانسي عليه .. إلا أن ذكرى معاملته السيئة لها .. ورؤية ريم بين أحضانه جعلت قلبها يقسو مجددا .. خمد الهاتف أخيرا مما جعلها تعود لتتنفس مجددا .. كانت تعرف بانها مسالة وقت فقط قبل أنه يجدها محمود .. وبالفعل .. بعد يومين .. دخل ماهر عليها بعد أن طرق الباب أثناء انشغالها بشرح درس للمياء في الفرنسية .. التقطت توتره على الفور وسألته بقلق وهي تنتصب جالسة :- ما الأمر ؟
قال بجمود :- الدكتور محمود هنا
شحب وجهها وظهر الهلع في عينيها وهي تقول :- هنا ؟ كيف ؟ هل اخبرته بانني موجودة ؟
قال بتوتر :- لم أستطع الكذب عليه يا نانسي .. افهميني .. إنه حتى لم يسألني إن كنت موجودة أم لا عندما وجدته واقفا خلف الباب .. لقد طلب رؤيتك مباشرة وكأنه واثق من وجودك .. إنه ينتظر الآن في غرفة الضيوف مصرا على مقابلتك
الانفعال جعل نانسي ترتجف .. وكل ما دفعها للهرب منه يعود ليهاجم ذاكرتها .. لم تستطع تحمل رؤيته مجددا .. مواجهته والنظر إلى وجهه والتحدث إليه.. قالت بانفعال :- لا أسنطيع ان أراه .. أرجوك يا ماهر ... قل له أي شيء .. أي شيء
أسرعت لبنة تجلس إلى جوارها وتحيطها بذراعها محاولة تهدئتها ..ثم نظرت إلى ماهر قائلة بحزم :- لقد سمعت ما قالته .. نانسي لا تريد رؤيته
هز كتفيه دون ان بجد ما يقوله .. ثم غادر الغرفة بينما قالت لبنة برقة :- اهدئي يا عزيزتي .. لست مجبرة على لقاءه
قالت لمياء بقلق :- ماذا إن رفض الرحيل قبل لقاءها ؟
فكرت نانسي بأنه على الأرجح سيفعل هذا بالضبط .. وماهر مهما بلغت صلابته إلا ان محمود يظل في النهاية أستاذه وصاحب سلطة عليه .. تسللت خارجا ووقفت خلف باب غرفة الضيوف الموارب وأخذت تستمع إلى صوت محمود يقول بصرامة :- ماذا تعني بأنها لن تراني .. أخبرها بانني لم أذهب إلى أي مكان قبل التحدث إليها
قال ماهر بصلابة :- أنا آسف يا دكتور محمود .. نانسي امرأة حرة .. وإن رفضت رؤيتك فلا أحدج يستطيع إرغامها
سماعها صوت محمود بعد كل هذا الوقت جعل رجفة شوق تجتاحها بقوة .. لم تنسى للحظة عمق صوته الرجولي الجذاب وتأثيره عليها .. كادت ترى بعين الخيال الغضب الذي رسمته كلمات ماهر على وجهه وهو يقول بخشونة :- نانسي ليست حرة .. هي زوجتي وتنتمي إلي .. وإن لم أرها حالا وفي هذه اللحظة فستجد نفسك متورطا في تهمة اختطاف
قال ماهر بشجاعة فاجأتها :- نانسي هنا بكامل إرادتها.. وهي لن تبقى زوجتك لفترة طويلة .. سرعان ما ستحصل على الطلاق لتعود حرة مجددا
أسرعت نانسي التي قدرت بغريزتها كيف ستكون ردة فعل محمود على كلمات ماهر الاستفزازية تقتحم الغرفة لتجد محمود ممسكا بالفعل بتلابيب قميص ماهر وقد ظهر عليه الإجرام التام .. بينما ثبت أمامه ماهر بشجاعة مستعدا للعراك .. التفت الاثنان نحوها فور دخولها .. فارتخت قبضة محمود الممسكة بماهر عند رؤيته لها .. حبست أنفاسها وهي تحس بمشاعرها تفيض لرؤيته مجددا .. أهذا هو محمود حقا ؟ .. كان يبدو مختلفا وقد كسا الشحوب وجهه المرهق .. ونمت ذقنه مما أظهر تأثير قلقه الشديد عليها .. كان يبدو أكثر نحولا مما تذكر .. إلا أنه كان ما يزال محمود .. الرجل القوي الجذاب صاحب التأثير العنيف فيها حتى وهو يبدو في أسوأ حالاته كهذه اللحظة .. لا .. لن تضعف مجددا .. حتى وعيناه تلتهمانها بشوق ولهفة .. وكأنه لا يصدق وقوفها أمامه بدمها ولحمها قطعة واحدة بلا أي سوء .. رفعت ذقنها نحوه بصلابة وهي تقول بجفاف :- ها انا ذا امامك .. لست مضطرا لإيذاء ماهر كي تراني .. مع أنني أشك بوجود أي شيء يقوله احدنا للآخر
انسحب ماهر بهدوء تاركا الزوجين ليتحدثا معا مغلقا الباب وراءه دون ان يشعر به أحدهما .. تواجها طويلا .. كل منهما نظر إلى الآخر .. درست عيناه كل جزء من وجهها الشاحب الخالي من الزينة .. عينيها الواسعتين الحزينتين وشعرها الناعم المنسدل حول وجهها .. جسدها الذي غطاه سروال قديم من الجينز وقميص أبيض فضفاض استعارته من لبنة أظهر نحولها الشديد .. كانت تبدو أكثر ضعفا وهشاشة .. ولعينيه .. لم تبدو يوما أكثر جمالا .. قال بهدوء وكأن ثورة غضبه منذ دقائق لم تحدث قط :- كيف حالك يا نانسي ؟
تشنجت وهي تقول :- اعفني من تظاهرك بالاهتمام نحوي وأخبرني بما تريده مني يا محمود
برقت عيناه الداكنتان .. وأطلت منهما مشاعر عاصفة .. بينما توتر فمه وهو يقول :- أتلومينني على قلقي بعد غيابك واختفاؤك لعشرة أيام كاملة ؟.. ألديك فكرة عن شعوري وأنا ابحث عنك في كل مكان كالمجنون خلال الأيام السايقة .. لم أترك مكانا إلا وبحثت فيه .. مستشفى .. أو مخفر .. أو حتى مشرحة .. قلقا من إصابتك بمكروه .. توقفت عن الذهاب إلى الجامعة .. ولم تتركي أي خبر منذ مغادرتك البيت فجأة .. هل تتخيلين مدى قلقي وأنا أعرف بأنك لا تملكين مكانا تلجأين إليه .. وأنك قد تكونين في أي مكان .. وتعانين من أي شيء دون ان أكون قادرا على مساعدتك ؟ عشرة أيام لم أنم خلالها لحظة واحدة وأنا أنتظر أن تتصلي بي يوما أو ان تردي على رسائلي الكثيرة فقط كي أطمئن عليك .. حتى تذكرت ماهر فجأة .. كيف لم أدرك بانك قد تلجئين إليه وهو شديد القرب منك .. كيف لم أفكر بانك دونا عن جميع الناس ستختارين اللجوء إليه هو
صدقت نانسي قلقه الشديد عليها .. فهي اكثر من يعرف احساسه الشديد بالمسؤولية اتجاهها .. كما كانت معالم إرهاقه وقلقه واضحة تماما في هيئته البعيدة تماما عن مظهره المتماسك المعتاد .. بدا محمود لأول مرة فاقدا وقاره وقوته وهو يجد نفسه عاجزا أخيرا عن تحقيق ما يريد .. وفي هذه اللحظة .. كان غضبه عاصفا للجوئها إلى ماهر دون غيره .. وتعرف تماما بانه لن يخاطر بإظهار غضبه بينما هو في موقف ضعف يواجهه للمرة الأولى
قست نفسها ومنعتها من التعاطف معه .. وقالت بتحدي :- وهاقد وجدتني أخيرا .. وعرفت بانني بخير ولا أحتاج إليك أبدا .. فلم لا تقول ما لديك وتوفر الوقت على كلينا
توتر فمه بغضب حاول تمالكه وهو يقول :- تعرفين جيدا ما أريد قوله .. أريد أن تعودي معي إلى البيت .. بيتنا
تراجعت خطوة إلى الوراء وقد ارتسم الرفض التام على وجهها وهي تقول :- لا .. ذلك المكان لم يكن بيتي يوما .. وأنا لن اعود إليه أبدا .. بل انا لن أذهب إلى اي مكان معك
قال بصوت أجش :- أعرف بانك غاضبة .. وأنني قد أسات معاملتك مؤخرا .. أعذر كل رفض لك مني .. وأتفهم مشاعرك .. ولكن إياك أن تشيري ولو من بعيد إلى تركك لي
اليأس في صوته كاد يمزق قلبها .. وجعلها تكبت كل ذرة ضعف لديها وهي تقول متماسكة :- ما دمت تتفهم مشاعري وغضبي .. فستعرف بان لا حل لمشاكلنا إلا الفراق .. لا يمكن لزواجنا ان يستمر أكثر .. فأحدنا لا يسبب للآخر إلا التعاسة والألم .. انا لن أعود إليك يا محمود .. فانا ارغب في الطلاق
تجاوز المسافة الفاصلة بينهما وأمسك بذراعيها بقوة وهو يقول بخشونة :- أنا لن أطلقك يا نانسي .. أتفهمين ؟ وانت ستعودين معي إلى البيت والآن .. ولن أسمح لك بالغياب عن عيني مجددا
حاولت التملص منه بلا فائدة .. فرفعت رأسها نحوه تقول بعنف :- أظنك ستشير مجددا إلى شراءك لي .. وأنك لم تحصل على ما يكفي كتعويض عن كل ما قدمته لعائلتي
شحب وجهه وهو يقول بتوتر :- قد اكون أشرت إلى هذا عدة مرات في لحظات غضب عابرة .. ولكنني لم أشعر قط بانني قد اشتريتك .. أريدك أن تعودي معي لأنني أحتاجك .. وأريدك في حياتي .. الأيام السابقة التي قضيتها بدونك كانت كالجحيم .. لن أستطيع الصمود بعيدا عنك لحظة واحدة
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تسمع الكلمات التي تتمنى كل امرأة سماعها من الرجل الذي تحب .. إلا أن ذكرى معاملته السيئة لها وخيانته لها منحتها القوة لتقول بألم :- إياك ان تكذب علي يا محمود .. أنا لم أكن بالنسبة إليك أكثر من شيء اشتريته .. أنت لم تحترمني أو تقدرني يوما .. حتى عندما كنت تعاملني بلطف .. كنت تؤمن في قرارة نفسك بانني امرأة رخيصة وتافهة دون ان تنسيها للحظة ماضي والدها القذر .. ما كنت أبدا لتعاملني بالطريقة نفسها لو انني كنت فتاة مختلفة .. لو انني ريم او نسرين.. او أي فتاة تمتلك خلفية محترمة ووالدا ذا سمعة عطرة .. لن استطيع البقاء معك وأنا احس بانك تحتقرني وتقدم الآخرين علي .. انا لن أكون سعيدة .. وأنت لن تكون سعيدا لانني لن أصبح أبدا كما تريد .. ليس هناك حل سوى ان نفترق .. وأن يحاول كل منا البحث عن سعادته في مكان آخر ومع شخص آخر
التهب الغضب في عينيه وهو يغرز أصابعه في ذراعيها قائلا بشراسة :- هذا ما تتمنينه أنت وصديقك الخانع ذاك .. أن يخلو لكما الطريق لتكونا معا من جديد .. لن تكوني له إلا على جثتي
فقدت اعصابها فجأة ودفعته عنها وهي تصيح بثورة :- أنا لن أكون له .. أو لك أو لأي رجل آخر .. لقد اكتفيت بسببك من كل جنس الرجال إلى الأبد .. لقد قتلت داخلي كل قدرة لي على العطاء او حتى الأخذ .. لقد ذبحتني يا محمود ... نجحت انت في ما فشلت كل المصاعب التي واجهتها في فعله .. لقد فقدت والدي .. تشردت وأهنت .. وحتى هوجمت .. إلا أنني كنت دائما قادرة على الوقوف صامدة على قدمي والاحتفاظ بكبريائي .. لقد ظننت حقا بانني قوية بما فيه الكفاية كي أصمد في وجه العواصف والرياح .. ظننت بانني لن انحني حتى تنحني الجبال .. إلا أنني لم أنحني فقط على يديك .. لقد انهرت تماما ولم يتبق مني إلا أشلاء من تلك الفتاة التي كنتها يوما .. ما الذي بقي لدي لأمنحه لك أو لأي رجل آخر من بعدك .. لقد خسرت كل شيء .. كل شيء
ابتعدت عنه وهي تجهش في البكاء مخفية وجهها بين يديها بينما تسربت الدموع الغزيرة من بين أصابعها لتذيب قلبه وهو يمد يده نحوها في محاولة يائسة لمواساتها .. إلا انها انتفضت فور أن لمسها وتراجعت عنه هاتفة بعنف :- لا تلمسني .. إياك ان تلمسني
قال بصوت أجش :- لم تخسري كل شيء يا نانسي .. ما زلت تملكين قلبي .. أنا أحبك .. ولن اتوقف لحظة واحدة عن حبك
استدارت نحوه صائحة بشراسة :- إياك أن تتكلم عن الحب يا محمود .. أنت لا تعرف ما هو الحب .. وان تعرف أبدا ما يعني ان يضحي الانسان لأجل من يحب وان يتقبله كما هو بعيوبه وزلاته لأنه يحبه
أغمض عينيه وهو يأخذ نفسا عميقا .. ثم قال بإصرار :- مهما رفضتني سأظل اكررها لك حتى تصدقيها وتؤمني بحقيقتها .. انا احبك يا نانسي .. احبك ومستعد لفعل أي شيء لتعويضك عن كل ما سببته لك من ألم .. اطلبي أي شيء .. أي شيء وسأنفذه لك فورا .. فقط امنحيني الفرصة .. فرصة واحدة لأثبت لك أهميتك لدي ومدى حبي لك
نظرت إليه من بين دموعها وقد شع بصيص من الامل داخلها .. أهذا ممكن ؟ هل هناك أمل ولو بسيط في ان تجد السعادة مع زوجها الذي تحب بلا أي عوائق أو شكوك ؟
لاحظ ترددها فأشرق الأمل داخله .. وعندما تكلمت أخيرا تمتمت :- لدي شرط واحد لأي تفاهم بيننا يا محمود .. شرط واحد قد يدفعني تنفيذك له إلى التفكير بكامل علاقتنا
أسرع يقول بلهفة :- اطلبي ما شئت
صمتت للحظات طويلة قبل أن تقول :- شرطي هو ان تخرج عائلة عمك من حياتنا تماما .. أن تغادر منزلك .. أو نغادره نحن .. علاقتك بهم يجب أن تقتصر على عملك مع عمك لا أكثر
ساد صمت طويل جمد خلالها محمود للحظات وقد صدمه طلبها .. ثم قال بتوتر :- أنت تطلبين مني التخلي عن عائلتي يا نانسي .. عمي لم يكن يوما مجرد عم .. كما لم تكن زوجته مجرد زوجة عم .. لا أستطيع إخراجهم من حياتي بهذه السهولة فقط لإرضاء إحدى نزواتك
أحست نانسي وكأن طعنة نجلاء اخترقت صدرها حتى بدأت تحس بالاختناق وصعوبة التنفس .. هاهو يفضل ريم عليها مجددا .. ها هو يرفض التخلي عنها رغم كل شيء .. هزت رأسها بألم غير قادرة على النظر إليه .. وتحركت نحو الباب دون أن ترى فأمسكها قبل أن تخرج وأدارها إليه قائلا بعنف :- انظري إلى يا نانسي .. انظري إلى وحاولي إنكار ما تشعرين به نحوي .. كل منا ينتمي إلى الآخر .. وقد جمعت بيننا ذكريات كثيرة تثبت هذا ..وإن كنت قد نسيت فانا قادر على تذكيرك
شدها إليه بقوة ومال نحوها محاولا تقبيلها .. فأبعدت وجهها عنه وهي تهتف بانهيار :- إياك أن تلمسني .. انا لا أستطيع حتى النظر إليك .. اتركني
تركها فجأة فابتعدت عنه وهي تكبت نشيجا قويا .. واستندت إلى الجدار وقد أحست بتراكم الضغوط عليها سيفقدها القدرة على الوقوف .. أطل ألم كبير من عينيه وهو يقول:- إياك أن تدعي كراهيتي يا نانسي .. إياك حتى أن تفكري بها .. لا تسمحي لمشاكل صغيرة وأوهام لا أساس لها ان تهدم ما جمع بيننا .. إن لم يكن من اجلنا .. فمن أجل طفلنا
رفعت نانسي رأسها إليه وحدقت به مذهولة ..لا يمكن أن يكون قد قال ما طنته قد قاله .. رمش بعينه ملاحظا صدمتها .. ثم نظر إلى بطنها الضامر المخفي بالملابس الفضفاضة مؤكدا :- نعم يا نانسي .. طفلنا .. عندما فقد الوعي ذلك النهار كان طبيب جدتي موجودا لحسن الحظ .. قام بفحصك وأفصح عن شكوكه بان شبب فقدانك الوعي قد يعود إلى حملك .. أنت قد تكونين في هذه اللحظة حاملا بطفلنا يا نانسي .. وأنت لن تسمحي لهذا الطفل بأن يولد ويعيش بعيدا عن احد والديه
كانت ما تزال تحدق به كالمجنونة وتلك الكلمة تدوي داخل رأسها بعنف .. طفل .. طفلها .. طفل محمود .. امتدت يدها تلقائيا نحو بطنها .. وحاولت دون تركيز حساب الأيام التي مرت على موعد دورتها الشهرية .. طفل .. طفل محمود .. ألهذا كانت خائرة القوى خلال الأيام السابقة .. تعاني من الغثيان والدوار .. ؟
لا .. لا يمكن .. مستحيل .. ترجمت رفضها على شكل همس :- مستحيل .. لا يمكن
عاد يمسك بها ليجبرها على النظر إليه .. وهو يقول بإصرار :- ليس مستحيلا يا نانسي .. أنت ستنجبين طفلنا .. لن أسمح أبدا بأن يولد ابني بعيدا عني .. انت ستعودين معي إلى البيت .. وأنا سأهتم بك وأرعاك .. فأنت تبدين ضعيفة ومتعبة .. وبحاجة ماسة إلى العناية .. وأعدك بانني لن أؤذيك مجددا
سطع ضوء قوي داخل رأسها في هذه اللحظة .. وظهرت الحقيقة المرة لتقتل كل امل لديها .. هذا ما اعاد إذن .. هذا ما جعله يائسا إلى هذا الحد لإعادتها إلى بيته .. فهس ستنجب له طفلا .. وريثا صغيرا يحقق آماله
وليس لأنه يهتم لأمرها كما حاول إقناعها .. لأنه لو كان حقا يكن لها أي نوع من المودة .. لو كان متمسكا بها بما يكفي لقدر الضغط الذي تعاني منه ولاستجاب لمطلبها الوحيد منه .. وهو ابتعاده عن ريم .. نظرت إلى وجهه الوسيم .. إلى الأمل و الاصرار في عينيه .. إلى ت وتر فمه .. وتذمرت .. تذكرت كل شيء .. فتراكم الألم ليخرج دفعة واحدة على هيئة صراخ جنوني :- ألن تؤذيني مجددا ؟ وكيف تؤذيني أكثر مما فعلت ؟ أنا اكرهك يا محمود .. أكرهك .. وأكره هذا الطفل الذي يجمعني بك .. وأتمنى الا انجبه أبدا
تحررت منه مستغلة صدمته لعنف كلماتها وبشاعتها .. واندعت خارجة من الغرفة .. وأقفلت باب غرفة النوم ورائها بينما وجد نفسه يلحق بها حتى وقف في الممر عاجزا .. مضطربا .. ليرى كلا من ماهر ووالدته يقفان على بعد أمتار عنه .. ينظران إليه بتعاطف وشفقة
انهارت نانسي في بكاء هستيري فوق السرير الصغير .. بينما حاولت كل من الفتاتين مواساتها بلا فائدة .. ثم دخل ناهر مع أمه مشيرا إلى شقيقتيه بالخروج .. فنفذتا أمره بلا تردد .. جلست السيدة رجاء إلى جوارها وضمتها إليها لتبكي على صدرها وهي تقول بحنان :- لقد رحل يا عزيزتي .. توقفي عن البكاء .. فهو لن ينفعك في ظروفك هذه
مسحت دموعها ونظرت إلى السيدة الطيبة التي قالت :- لم نتعمد الاستماع إلى كلامكما .. ولكنكما كنتما تصرخان .. وقد عرفنا بأمر الطفل
تمتمت نانسي :- إنها مجرد شكوك .. قد لا اكون حاملا حقا
:- ما أسهل أن نتأكد .. غدا صباحا سآخذك إلى طبيب مختص .. وسنعرف الحقيقة
جلس ماهر على السرير المجاور قائلا بقلق :- نانسي .. فكري جيدا بخطواتك القادمة .. الأمر لم يعد متعلقا بك وحدك .. هناك طفل متورط في القضية .. والدكتور محمود متمسك بك كما هو واضح .. وأنا لم أره يوما على هذه الحالة
هزت نانسي رأسها قائلة بألم :- لا مجال لعودتي إليه .. أعرف بانني أثقل عليكم ببقائي هنا .. ولكنني سأبدأ فورا بالبحث عن عمل والسعي خلف .....
قاطعتها السيدة رجاء مصدومة :- أي كلام هذا يا ابنتي .. هذا بيتك .. ولن أسمح لك بالتشكيك في ترحيبنا بك
قال ماهر بحزم :- لن نضغط عليك يا نانسي .. ولكننا معك خطوة بخطوة في كل ما تقررين فعله
مد يده إلى جيبه وأخرج ظرفا مغلقا وهو يقو ل:- لقد ترك لك الدكتور محمود هذا .. إنه مبلغ من المال لتأمين حاجاتك
قالت بصوت مختنق :- أنا لا أريد منه شيئا
قال ماهر :- هذا بالضبط ما قلته له .. بانك هنا لن تكوني بحاجة إلى أي شيء.. ولكنه دس الظرف في يدي غير مبال باعتراضي ورحل .. وأنت ما زلت زوجته يا نانسي .. وما هذا إلا جزء من حقك عليه
وضع الظرف على المنضدة المجاورة للسرير .. ثم غادر الغرفة برفقة والدته .. بينما تكومت نانسي على نفسها فوق السرير وهي تفكر بألم .. طفل .. هل حقا سأنجب طفلك يا محمود ؟ حتى بعد أن تركتك ورحلت عنك .. تترك لي تذكارا لن يسمح لي بنسيانك يوما ..وكأنني أستطيع يوما أن أنساك ..
ثم عادت إلى البكاء مجددا
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 16:28
الفصل السابع والعشرون
في انتظارك
داعبت نسمة رقيقة بشرة نانسي فأغمضت عينيها وهي تأخذ نفسا عميقا مشبعا برائحة أوراق الربيع العطرة .. كان الطقس رائعا .. مائلا إلى البرودة .. إلا انه كان مناسبا للغاية لشخص بكآبة نانسي بحاجة إلى ما يرفه عنه قليلا .. فتحت عينيها لتتأمل الحديقة المحيطة بالكلية .. بينما هي تجلس فوق أحد المقاعد الحجرية .. بعد ان أخرجها غثيان مفاجئ من إحدى المحاضرات
لم يستطع شيء تحسين مزاجها منذ ذهبت إلى الطبيب برفقة أم ماهر وتأكدت من حملها .. عمر الجنين 10 أسابيع .. وهذا يعني بان الحمل قد تم في الليلة التي أخذها فيها محمود عنوة لأول مرة .. أكد الطبيب على اهمية الغذاء الصحي والمتكامل نسبة إلى نحولها الملحوظ .. ومنذ ذلك اليوم والكل يعاملها بحرص وكأنها مصنوعة من الزجاج .. السيدة رجاء تطعمها بإفراط . . لمياء ولبنة تمنعانها من بذل أي جهد .. ماهر يأتيها بما تحتاجه من محاضرات .. حتى بدات تحس بالاختناق وبالحاجة إلى الخروج والتخلص من إحساسها بالعجز .. وأصرت على مرافقة ماهر هذا الصباح إلى الجامعة . والآن .. في لحظة صفاء مع نفسها .. عرفت نانسي بأن السبب الرئيسي لإصرارها على الحضور هو أملها في رؤية محمود ولو من بعيد .. حتى مع علمها بأنه لا يكون موجودا في هذا اليوم من الاسبوع .. ولكنها بعد أيام على لقائها به .. بدأ الشوق يضنيها لرؤيته أو حتى سماع صوته وقد توقف عن الاتصال بها واكتفى بالاتصال بماهر يوميا للاطمئنان عليها رغم كراهيته لهذا .. توقفه عن محاولة التحدث إليها جعلت خيبة الأمل والحزن والكآبة تسيطر علبها .. هل صدق حقا بانها ترفض وجود هذا الطفل ؟
ربما في البداية .. معرفتها بحملها كانت صدمة كبيرة لها في حالتها النفسية السيئة .. إحساسها بانه قد سعى إليها وبحث عنها لأجل الطفل .. وليس لأجلها هي .. وأن الحب الكبير الذي ادعى انه يشعر به اتجاهها كان مجرد حيلة يستميلها بها ويخدعها بها .. كي تستسلم وتعود من جديد تحت رحمته
إلا انها بعد أن استمعت إلى خفقات قلب الجنين داخل عيادة الطبيب .. وتفكيرها كل ليلة بالكائن الذي بدأ يتشكل داخلها .. جعل إحساسا دافئا وعاصفا يجتاحها .. سوف تنجب طفلا .. طفلا صغيرا تحبه ويحبها بلا حدود .. طفل صغير يكون لها تماما .. طفل هو جزء من الرجل الذي حصل على حبها واحترامها وكراهيتها في وقت واحد .. فجأة .. لم تعد فكرة الحصول على ما يذكرها بمحمود سيئة
ورغم هذا .. فهي ما تزال قلقة ومتوترة بشان المستقبل .. حتى الآن لم تستطع أن تقرر تماما ما ترغب بفعله . لقد طلبت الطلاق من محمود .. وقد نصحها ماهر باللجوء إلى محامي مختص ليقوم بالإجراءات المناسبة إن رفض محمود منحها الطلاق من تلقاء نفسه .. وحتى الآن هي تتلكأ مؤجلة الأمر المحتوم وكأنها تنتظر .. تنتظر ماذا بالضبط ؟؟؟
تنهدت وهي تحيط نفسها بذراعيها وكأنها تحتضن نفسها وتمنحها الدعم في حالة الضعف التي تحس بها .. فكرت بيأس .. متى سينتهي الألم ؟
نانسي
التفتت إلى ماهر الذي اقترب برفقة ندى كما اعتاد دائما .. جلسا إلى جانبها بينما سألها ماهر :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت :- أفضل بكثير بعد أن تنشقت بعض الهواء النقي
تأمل وجهها الشاحب وقال بإصرار :- تبدين متعبة .. ما كان عليك الحضور إلى الجامعة اليوم
نظرت نانسي إلى ندى التي تأرجحت نظراتها بين الفضول .. والانزعاج باهتمام ماهر الشديد بنانسي .. فقالت بضيق :- أنت محق .. أظنني سأعود إلى البيت
نهض فور وقوفها وقال :- سأوصلك
اعتذر من ندى التي رغم المودة التي تحملها لنانسي .. بدت غير سعيدة على الإطلاق بهذا الترتيب .. وفور ابتعاد نانسي وماهر سألته نانسي بحدة :- هل تعرف ندى بأنني أقيم في منزلك بشكل مؤقت ؟
قال بغضب :- أي سؤال هذا يا نانسي .. منذ متى أتجول هنا وهناك ناشرا أسرارك ؟
زفرت بقوة وهي تقول بتوتر :- أنا آسفة .. أعصابي مرهقة هذا اليوم .. وأشعر برغبة كبيرة في الشجار مع احدهم وكنت أنت كبش الفداء
نظر إليها متفحصا وهما يعبران معا بوابة الجامعة وهو يقول :- انا لا امانع في ان تفرغي غضبك بي .. ألن تخبريني بما يزعجك ؟ هل كنت تأملين برؤية الدكتور محمود ؟
نظرت إليه بحدة ساخطة من فراسته المعتادة .. وقالت بغيظ :- بالطبع لا .. ولماذا قد ارغب برؤيته ؟ لا تتعب نفسك بإيصالي .. عد غلى ندى .. سآخذ سيارة أجرة وأعود وحدي
أسرعت تقول عندما فتح فمه ليعترض :- إياك ان تحتج .. انا بحاجة إلى السير قليلا على أي حال .. لست في عجلة من أمري
تركها مستسلما لإصرارها وهو يقول :- لا ترهقي نفسك
تركته ملوحة بيدها وقطعت الشارع .. لتتوقف في منتصفه فجاة مذهولة وهي ترى سيارة زرقاء تتجه نحوها بسرعة جنونية بدت غير قادرة على تفاديها . جمدها الرعب .. فلم تشعر إلا بماهر يدفعها بقوة بعيدا عن طريق السيارة التي لم تخفف حتى من سرعتها وهي تبتعد عن الانظار .. سقطت نانسي على الأرض بعنف مع ماهر الذي قفز واقفا وهو يشتم هاتفا بغضب :- الحقير .. ليس لسيارته لوحة ..
لفتت انتباهه آهة انطلقت من فم نانسي فأسرع نحوها ليساعدها على الوقوف ..إلا أنها سرعان ما انثنت وهي تئن وقد شحب وجهها وألم حاد يمزق بطنها .. تغير لون ماهر عندما تذكر حملها وهتف بلوعة :- ما الذي حدث ؟ هل أذتك السقطة ؟
تمتمت مغمضة عينيها :- لا اعرف .. أحس بألم شديد
قال فورا وثد اتخذ قراره :- يجب ان يراك الطبيب حالا
دون ان تعترض هذه المرة .. ساعدها في الوصول إلى سيارته .. ونقلها إلى عيادة الطبيب الذي طمأنهما بعد ان قام بفحص نانسي بينما انتظر ماهر خارجا .. ثم اشتدت نبرته حزما وتحذيرا وهو يشدد على اهمية اعتنائها بنفسها والتزام الراحة خلال الأيام القادمة .. ووصف لها بعض الأدوية لتثبيت الجنين .. ثم خرجت نانسي محمرة الوجه برفقة ماهر بعد ان ألقى الطبيب بتعليمات خاصة ظنا منه بأن ماهر هو زوجها
في البيت .. بدا ماهر كالنمر الحبيس وهو يجوب غرفة الجلوس ويصيح غاضبا :- أنا متأكد مما رأيت .. ذلك السائق اتجه نحوك متعمدا بنية صدمك وقد ازال الأرقام من سيارته كي لا يتم التعرف عليه .. لا يمكننا السكوت عن هذا
تمتمت نانسي من حيث كانت ممددة على الأريكة بإلحاح من السيدة رجاء :- أنت تبالغ يا ماهر .. لماذا قد يرغب أي أحدهم بأذيتي ؟
إلا أنها كانت في الحقيقة تشعر بالقلق والخوف أكثر مما اظهرت .. وهي تتذكر مشهد السيارة الزرقاء القديمة الطراز تندفع نحوها بإصرار وكأنها حقا ترغب بأذيتها .. ولكن لماذا قد يرغب أي كان في إلحاق الأذى بها ؟ السؤال هو .. من قد يرغب في هذا ؟ هل هناك حقا من يكرهها إلى هذا الحد ؟
برزت صورة محمود فجأة امام عينيها فأزاحتها بعنف .. مهما كبرت المشاكل بينهما فإن محمود أبدا لن يسبب لها الأذى .. هل أنت متأكدة .؟
قطع ماهر أفكارها القلقة بهتافه :- أبالغ ! .. لقد كنت هناك يا نانسي .. ورأيت ما رأيته انا بالضبط شخص ما حاول إيذئك عمدا
قالت أم ماهر بقلق :- المهم انها بخير الآن .. لن تتعرض لأي أذى إن لازمت المنزل او حظيت بالمرافقة أينما ذهبت .. صحيح ؟
ارتفع في تلك اللحظة صوت لمياء وهي تقول مترددة :- أليس من حق زوج نانسي ان يعرف بما حدث ؟
اتجهت الانظار نحو الفتاة الصغيرة التي تلقت ركلة خفية من شقيقتها الكبرى لتصمت بينما قال ماهر :- لمياء محقة .. الدكتور محمود يجب أن يعرف
أسرعت نانسي تهتف مذعورة :- لا
نظر ماهر إليها وهو يقول بحزم :- فكري جيدا يا نانسي .. من حق الدكتور محمود أن يعرف بان شخصا ما قد حاول إيذاء زوجته .. الوضع لا يحتمل عنادك الطفولي هذا .. حياتك وحياة طفلك هما على المحك الآن
تناول هاتفها المحمول ودفعه نحوها قائلا بإصرار:- اتصلي به يا نانسي .. أنا لا أطلب منك التنازل والذهاب إليه .. فقط أخبريه بما حدث
تناولت الهاتف بيد مرتجفة .. وطلبت رقم هاتفه باضطراب شديد .. دوى الأزيز المألوف ليعبث بأعصابها .. ولم يطل الأمر حتى سمعت صوته الجهوري يقول بحدة :- نانسي
خفق قلبها بعنف لدى سماعها لصوته .. ووجدت نفسها عاجزة عن قول أي كلمة .. فعاد يكرر بصوت عصف به القلق :- نانسي .. اهذه انت ؟
غلبها الانفعال .. فدفعت الهاتف مذعورة نحو ماهر الذي نظر إليها بعتاب وهو يرفع الهاتف ويتحدث عوضا عنها :- دكتور محمود .. أنا ماهر .. لا .. نانسي بخير .. أنا من ألح عليها بالاتصال بك ولكنها عجزت في اللحظة الأخير عن إخبارك بما حدث
بكلمات مختصرة حكى ماهر ما حدث لمحمود .. فلاحظت تغير ملامحه واحمرار وجهه أمام كلمات محمود العاصفة التي انهالت عليه من الطرف الآخر .. وهو يجيب عن أسئلته .. تمتمت في النهاية :- بالتأكيد .. إنها هنا .. تفضل
لم تستطع نانسي التراجع وقد وجدت الهاتف بين يديها .. رفعته إلى أذنها وهي ترتجف كم الخوف هامسة :- ألو
أتاها صوت محمود القلق يقول :- نانسي .. هل أنت بخير ؟ هل أصابك مكروه ؟
اهتمامه الشديد جعل إحساسا دافئا بالحماية يجتاحها .. وجعل دموعا تتجمع في عينيها وهي تقول باضطراب :- أنا بخير
:- هل أنت متأكدة ؟ ما الذي قاله الطبيب ؟ هل الطفل بخير ؟
قالت بتوتر :- الطفل بخير يا محمود .. ليس عليك أن تقلق
ارتفعت حدة صوته وهو يقول بغضب :- أليس علي حقا أن أقلق يا نانسي ؟ أنا أعرف جيدا بأنك لم ترغبي أبدا بهذا الطفل .. وقد أخبرتني بنفسك عن رفضك له .. وأخمن بأنك ستكونين أكثر من مسرورة إن لم يقدر له أن يولد .. لقد ألحيت عليك مرارا بأن تعودي إلى بيتك كي أتمكن من العناية بكما معا إلا أنك بعنادك المعتاد رفضت وأصريت على تعريض نفسك للخطر .. ليكن بعلمك يا نانسي .. إن أصاب ابني أي مكروه بسبب أي إهمال أو تقصير منك .. فستدفعين الثمن غاليا
أحست نانسي بطعنة ألم قوية جعلتها نعجز عن التنفس للحظات .. محمود لم يكن قلقا عليها .. إنه مهتم فقط بسلامة طفله .. لقد صدق ظنها إذن .. محاولته السابقة لاستعادتها لم تكن إلا وسيلة لاستعادة الطفل الذي يأمل في إنجابه
الصدمة التي تعرضت لها منذ ساعات وحالة الضعف التي تمر بها .. الغضب والالم والمرارة .. كل هذا اجتمع داخلها ليدفع كل ما اختزنته داخلها من مشاعر عاصفة إلى الحافة .. تدفقت دموعها وهي تقف هاتفة بكل ما يعتمر داخلها من ثورة :- أهذا ما يهمك يا محمود ؟ لقد كدت فقد حياتي تحت عجلات سيارة مجهولة وكل ما تفكر به هو الطفل .. فلتعلم إذن بان مكروها لن يصيب ابني .. سأحميه بحياتي إن اضطررت .. وسأحرص على ألا يعرف أبا انانيا باردا وقاسيا وخاليا من المشاعر مثلك .. أب خائن لا يعرف معني الحب والإخلاص .. أب لن يتورع عن خيانة أمه تحت سقف بيتها بلا أي اعتبار للقيم والأخلاق .. أكرهك يا محمود .. أكرهك وأحتقرك ولا أصدق بانني قد أحببتك يوما .. أكرهك واتمنى لو انني لم اعرفك أبدا ....
خنقتها الدموع فسقط الهاتف من يدها وهي تخفي وجهها بيديها وتجهش في بكاء مر جعل السيدة رجاء ترتجف لوعة وقلقا وهي تضمها محاولة تهدئتها .. بينما التقط ماهر الهاتف .. وتحدث إلى محمود قائلا :- انا آسف يا دكتور محمود ... نانسي لن تستطيع التحدث إليك أكثر .. نعم .. حسنا . سأخبرها
أنهى المكالمة .. ونظر إلى نانسي التي عادت تجلس على الأريكة وأمه تطبطب عليها بحنان وهو يقول :- الدكتور محمود قادم إلى هنا .. سيكون موجودا خلال ربع ساعة
محمود سيكون هنا .. سيأتي إليها .. وسيثبت لها بأنها مخطئة في ظنها .. وأنه يحبها هي .. ويهتم لأمرها هي .. سيأتي لأنها في حاجة إليه .. في حاجة إلى وجوده إلى جانبها في هذه الظروف .. وإلى حمايته لها
اختفى فجأة غضبها منه .. ولم تعد ترغب إلى بحضنه يلفها ويمنحها الدفء والحنان .. سيبرر لها كل شيء .. ويفسر لها كل شيء .. وهي ستتفهم .. وتسامح .. فقط إن عاد إليها وأحبها من جديد
مرت ربع ساعة .. ثم نصف ساعة .. ثم ساعات أخرى دون أن يأت محمود .. ورغم هذا .. ظلت نانسي مصرة على أنه سيأتي .. وأن هناك ما أخره وعطله عن الحضور .. لقد قال بأنه سيأتي .. ومحمود لا يكذب
حقا .. ألم يكذب عليك مرارا مدعيا حبه لك ؟ ألم يعدك بحمايتك والعناية بك ثم أهانك وأذلك مرارا وتكرارا ؟
فوق سرير لمياء الصغير .. سهرت نانسي لساعات طوال دون أن تتوقف دموعها عن السيلان .. لقد منعت ماهر من الاتصال به .. وسؤاله عن سبب تأخره .. ورغم هذا .. ما زال جزء منها واثق بأنه سيأتي في النهاية
ومهما تأخر الوقت .. إن لم يكن من أجلها .. فلأجل طفلهما ..
ولكن محمود لم يأت .. وتجاوزت الساعة منتصف الليل .. وعم الهدوء الشقة الصغيرة وقد نام أصحابها .. ولم يعد هناك سوى نانسي المستيقظة .. تضع يدها على بطنها .. وتهمس لطفلها بألم شديد .. والدك سيأتي في النهاية .. لابد أن يأتي
إلا أن النعاس غلبها في النهاية .. ووجدت نانسي نفسها تنام وقد عرفت بأنها كانت مخطئة منذ البداية .. وأن محمود قد أخلف وعده كما أخله عدة مرات من قبل
لقد عرفت هذه المرة بأنها النهاية .. النهاية حقا
تقييم المساهمة: 100% (1)
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 16:29
الفصل الثامن والعشرون
بين الحياة والموت
لم تفتح نانسي عينيها حتى تأكدت من خروج لبنة ولمياء كل إلى مدرستها أو معهدها .. انتظرت حتى أصبحت وحيدة في الغرفة ثم فتحت عينيها وانقلبت على ظهرها .. تحدق في السقف بجمود .. وهي تشعر بالخواء داخلها .. وكانها قد فقدت القدرة على الشعور بأي إحساس .. لم يأت محمود .. وهذا يعني انه بكل بساطة لم يعد يريدها .. وهي كالحمقاء انتظرته طوال الليل وقد نسيت كل ما فعله بها .. أين قوتها .. أين كرامتها ؟ لقد سمعت من قبل عن تأثير هرمونات الحمل على المرأة ولكنها لم تعرف بانها تسبب لها داء الحماقة والوهم
اختفت الأصوات خارج الغرفة فعرفت بان البيت قد خلا الآن إلا من السيدة رجاء .. فنهضت وهي تفكر بأنها يجب أن تتخذ قرارا حاسما حول حياتها المستقبلية .. لا يمكن أن تبقى عبئا على ماهر وعائلته لفترة طويلة مهما رحبوا بها وأحسوا بالمسؤولية اتجاهها
خرجت إلى المطبخ لتجد السيدة رجاء تبدأ بتنظيف المائدة من بقايا إفطار الاولاد .. وعندما راتها تهللت أساريرها وهي تقول :- صباح الخير يا عزيزتي .. أرجو أن تكوني قد نمت جيدا
ابتسمت نانسي مؤكدة على هذه الحقيقة التي تعرف كلتاهما زيفها .. فنانسي لم تخطئ قراءة الشفقة المرتسمة على وجه المرأة المسنة .. لابد أن لمياء ولبنة قد أخبرتاها بأن نانسي قد قضت الليل كله ساهرة في انتظار زوج لم يعد يريدها
عندما رأتها السيدة رجاء تشمر عن ساعديها بهدف تنظيف الأطباق .. أسرعت تمنعها قائلة :- لقد كان الطبيب واضحا .. يجب أن تتجنبي أي جهد قد يتسبب بأذية الطفل
قالت نانسي باحتجاج :- لم أعد أطيق الجلوس بلا عمل أكثر .. أشعر بأنني عالة وعديمة الفائدة .. لن أستطيع البقاء في بيت لا أشعر بأنني عضو فعال بين أفراده .. أرجوك يا خالتي .. أنا أعرض تنظيف الأطباق ليس أكثر
نظرت إليها السيدة رجاء بتردد قبل أن تقول :- حسنا .. لا بأس.. سأسمح لك بغسل الأطباق إن تناولت فطورا كاملا
أشرق وجه نانسي وهي تجلس أمام المائدة وتبدأ بالأكل مع أم ماهر التي شاركتها الطعام وهي تسامرها في محاولة مها لشغل عقلها عن التفكير بمحمود
سمعتا فجأة جرس الباب .. يسبق صليل مفاتيح ماهر الذي اعتاد أن ينبه الموجودين لوصوله قبل الدخول احتراما لخصوصية نانسي
تبادلت نانسي نظرات القلق مع السيدة رجاء .. فلم تمر ساعة على خروج ماهر إلى الجامعة .. نظرت الاثنتان إليه عندما أطل عبر باب المطبخ شاحب الوجه زائغ النظرات .. فوقفتا مذعورتين .. وامه تقول بقلق :- ما الأمر يا ماهر ؟ ما الذي اعادك بهذه السرعة ؟
نظر إلى نانسي الشاحبة .. التي عرفت مسبقا ما سيقوله ماهر .. قال بهدوء :- نانسي .. يجب ان تأتي معي حالا
سألته بتوتر :- إلى أين ؟
:- إلى الدكتور محمود
أسرعت أمه تقول بحدة :- هل جننت يا ماهر ؟ كيف تفكر بأخذها إليه وهو لم يتعب نفسه بالحضور أمس بينما انتظرته المسكينة طوال الليل
بالكاد سمعتها نانسي وهي تحس بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان عندما قال ماهر :- الدكتور محمود لم يحضر مساء الأمس لأنه لم يستطع الحضور .. لقد تعرض لحادث أثناء خروجه من مبنى الشركة .. وهو في المستشفى الآن .. بين الحياة والموت .. مجهول المصير
نظر إلى عيني نانسي التين تحجرت فيهما الدموع قائلا :- أعرف بأنك غاضبة منه يا نانسي .. ولكنه بحاجة إليك في هذه اللحظات .. لن تسامحي نفسك إن أصابه مكروه وانت بعيدة عنه
لن تعرف نانسي كيف بدلت ملابسها وخرجت برفقة ماهر شبه واعية لحديثه إليها في السيارة .. وشرحه لها ما حدث بالضبط .. بدلا من الذهاب إلى الجامعة .. اتجه ماهر إلى شركة محمود بنية لقاءه ومواجهته كي يعرف سبب تخلفه عن الحضور مخالفا كل تحذيرات نانسي .. ليجد المكان في فوضى عارمة .. والكل هناك يتحدث عن حادث إطلاق النار الذي تعرض له محمود فور تجاوزه بوابة الشركة .. لقد توقفت سيارة زرقاء لا لوحة لها وأطلق سائقها رصاصتين نحو محمود أصابتاه على الفور وأسقطتاه على الأرض مضرجا بدمائه قبل ان تبتعد هاربة .. لا احد يعرف شيئا عن حالته بعد نقله إلى المستشفى حيث أجريت له عمليات جراحية عدة استغرقت الليل بطوله .. وماهر لم ينتظر ليعرف ..بل أسرع عائدا ليخبر نانسي وجها لوجه ويأخذها إلى هناك لتكون إلى جواره
نظر إلى نانسي بطرف عينه قائلا :- هل سمعت ما قلته يا نانسي ؟ سيارة زرقاء بلا لوحة أرقام حاولت قتل الدكتور محمود .. هل يبدو لك هذا المشهد مألوفا ؟
كانت نانسي ترتجف وهي تفرك يديها باضطراب .. وعقلها يدور ويدور حول فكرة واحدة لا غير .. محمود يموت .. لقد كانت حياته على المحك طوال الليل بينما كانت هي تلومه على التأخر دون ان تعرف ما اصابه .. محمود يموت الآن وسيتركها وحدها .. سوف تخسره غلى الأبد .. لم يكن عقلها قادرا على التفكير بما يقوله ماهر .. كل ما كان يهمها هو أن تصل إلى هناك .. ان تكون معه في حالته الصعبة .. أن تقف إلى جانبه وتمسك يده مطالبة إياه بألا يموت .. لا يمكن ان يموت حارما ابنهما القادم من أبيه .. لن يجرؤ على هذا
ارتجف فمها واحترقت عيناها بالدموع الحبيسة .. ولكنها لم تسمح لها بالفرار .. لقد تذكرت فجأة الساعات التي قضتها امام غرفة العمليات في انتظار خبر عن والدتها .. هاهي تحس بانها معرضة للتيتم من جديد .. ستفقد الآن زوجها وحبيبها وعائلتها الوحيدة .. لا .. إن كان هناك من لحظة تتطلب منها التسلح بالقوة فإنها هذه .. لن تنفع محمود باستسلامها للبكاء والانهيار .. فهو يحتاج إليها قوية .. وصامدة .. كي تحثه على الكفاح لأجل الحياة .. وصلا إلى المستشفى أخيرا .. سارت نانسي خلف ماهر الذي تكفل هو بالسؤال عن محمود .. فعرف بانه قد خرج من غرفة العمليات قبل ساعات قليلة .. وأنه الآن في غرفة العناية الفائقة .. دون ان يعرف مصيره بعد
أمام جناح العناية الفائقة .. كان هناك جمع من الناس المنتظرة .. كان العم طلال هناك ممتقع الوجه .. واجم الملامح .. والسيدة منار تبكي بمرارة وهي تدعو لمحمود بالشفاء .. ريم كانت منطوية في الزاوية وقد بدت شاحبة بوجهها الخالي من الزينة .. وعينيها القلقتين .. بينما كان فراس يجوب الممر بلا هوادة منتظرا أي أخبار من الطبيب .. بالإضافة إلى بضعة موظفين من الشركة رافقوا سيارة الإسعاف إلى المستشفى
نظر الجميع إلى نانسي فور وصولها برفقة ماهر .. فاختفى الحزن من وجه ريم .. وتوحشت ملامحها وهي تقول بغضب :- ما الذي تفعلينه هنا ؟ لا أحد على الإطلاق يرحب بك هنا
استعادت نانسي صلابتها على الفور وهي تقول بحزم :- أنا هنا لأكون مع زوجي يا ريم .. ولا أحد يستطيع منعي من هذا
قالت ريم بكراهية :- لقد تركته ورحلت بنفسك .. لم تعد لديك عليه حقوق .. بل وتأتين برفقة صاحبك غير عابئة بكلام الناس .. أهو من تركت محمود لأجله ؟
ارتفعت يد نانسي على الفور لتصفع ريم بقوة جعلت تلك تصرخ مذعورة فهبت أمها تصيح غاضبة :- أيتها الحقيرة
أسرع السيد طلال يبعد زوجته وابنته زاجرا بخفوت .. بينما قال فراس بنية التهدئة :- الوقت غير مناسب للشجار .. ما يهمنا جميعا هو مصير محمود
سألته بلهفة وهي تتشبث بذراعه :- كيف هو الآن ؟ أرجوك يا فراس ... أخبرني
قال متوترا :- الطبيب يقول بأن العملية قد تمت بخير .. لقد أخرجت الرصاصات بنجاح .. فقد اخترقا إحداهما كتفه على بعد سنتيمترات من قلبه لحسن الحظ .. والاخرى للأسف اخترقت رئته اليمنى .. لقد تم نقله منذ ساعة تقريبا إلى غرفة العناية الفائقة ولا يسمحون لأي أحد بزيارته
نظر حوله بتوتر قائلا بصوت منخفض :- لقد وصلت الشرطة قبل قليل .. وطرحت الأسئلة على الجميع .. من المتوقع أن يستجوبك أحدهم لاحقا .. لا أصدق بان أحدا قد يفكر بإيذاء محمود
ارتجفت نانسي وهي تفكر لأول مرة بهذه الحقيقة .. أحدهم حاول أذية محمود .. لماذا ؟ لماذا قد يرغب أي أحد بقتل محمود ؟
نظرت حولها إلى عائلته التي لفها القلق و التوتر .. إلى موظفيه اللذين ظهر عليهم الحزن العميق .. وتذكرت محمود .. الرجل القوي الصارم .. لماذا قد يرغب أي أحد بقتله ؟
خرج الطبيب فجأة .. فأحاط به الجميع لسماعه وهو يقول بارتياح :- لقد صحا أخيرا .. مؤشراته الحيوية ممتازة .. إنه ضعيف الآن فحسب .. ويحتاج إلى أكبر قدر من الراحة والعناية
أسرعت السيدة منار تقول بلهفة :- هل نستطيع رؤيته ؟
ظهر التردد على الطبيب وهو يقول :- أنا آسف .. لا يسمح إلا لشخص واحد برؤيته .. شخص يكون الأقرب إليه من عائلته .. ويكون بعيدا عن الشبهات أيضا .. إنها تعليمات الشرطة حتى يتم القبض على الفاعل
أسرع ناهر يتدخل بقوله :- السيدة نانسي زوجته أيها الطبيب .. كما انها تملك دليلا قاطعا على وجودها في مكان آخر وقت وقوع الحادث
اتجهت الأعين نحو نانسي بينما قال العم بامتعاض :- أنا عمه .. وبمثابة والده .. انا من رباه وأنا الأحق برؤيته
قالت ريم بحقد :- كما انها قد تركته طالبة الطلاق .. فعليا هي لم تعد زوجته
نقل الطبيب نظره بين العائلة المتحفزة .. والفتاة الشاحبة التي بدت على حافة الانهيار .. فاتخذ قراره على الفور :- السيدة زوجته على أي حال .. وهي الأقرب إليه في غياب والديه
كادت نانسي تعانق ا لطبيب امتنانا لرده .. إلا أنها في الوقت ذاته كانت ترتجف اضرابا لرؤية محمود الوشيكة .. ارتدت الملابس المعقمة .. وسارت خلف الممرضة إلى حيث يرقد محمود .. حبست أنفاسها وهي تنظر إلى الجسد الممدد أمامها
كان وجهه الذي اختفى نصفه تحت قناع الأكسجين .. شاحبا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه المغمضتين .. بدا كظهره مؤلما بالأسلاك التي وصلت جسده بالأجهزة المتطورة .. وبالضمادات المحيطة بصدره .. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقترب منه .. وتجلس إلى جواره .. لكم يبدو بعيدا في هذه اللحظة عن الرجل الذي عرفته خلال الأشهر الماضية .. مدت يدها نحو يده الملقاة إلى جانبه .. وأمسكت بأصابعه الباردة .. وهي تهمس :- ستكون بخير .. يجب أن تكون بخير
أغمضت عينيها .. وسمحت للدموع الغزيرة بالتدفق من بين أجفانها .. وهي تدعو الله في قلبها أن يشفي لها محمود .. حتى لو انه لم يكن لها في النهاية .. المهم ان يكون سعيدا حتى لو كان برفقة امرأة اخرى
لأول مرة تدرك نانسي ماهية الحب الحقيقي .. الحب الحقيقي هو أن تترك الشخص الذي تحبه يعيش سعيدا .. ولو على حساب سعادتها .. وهي تحب محمود .. تحبه ولن تكون لغيره ابدا
فتحت عينيها عندما أحست بضغط مفاجئ على أصابعها .. ثم أجفلت عندما رأت عيني محمود مفتوحتان .. تنظران إليها بثبات .. خفق قلبها بقوة .. وارتجف جسدها كاملا .. وهي تحس بالمشاعر العاصفة تجتاحها
كان ينظر إليها بطريقة جعلتها تعجز عن قول أي شيء .. عيناه العسليتان النصف مغمضتين .. كانتا تنظران إليها بشيء من الانفعال 00 وكأن وجودها إلى جانبه كان آخر ما توقع رؤيته
لم تعرف ماذا تقول .. هل تعتذر لوجودها المزعج إلى جواره .. أم تهنئه بالسلامة .. أم تجهش بالبكاء ؟
عيناه كانتا قد لاحظتا الدموع التي بللت وجنتيها .. فهمهم بشيء من أسفل قناع الأكسجين .. فأسرعت تقول بلهفة :- لا تقل شيئا .. سنتحدث لا حقا بكل شيء .. فور أن تتعافى بإذن الله وتقف على قدميك مجددا
لم تتوهم نانسي رؤية دموع تتلألأ في العينين الذكوريتين .. رؤيتها لضعف محمود الغير مألوف .. جعل قلبها يتمزق .. ودفعها لرفع يده نحو شفتيها لتطبع قبلة قوية على ظهرها .. ثم تضع راحتها على وجنتها مستمتعة بالاتصال الوحيد المتاح بينهما .. نبهها صوت الممرضة الخافت إلى أن دقائق الزيارة المتاحة لها قد انتهت .. وأنها تستطيع رؤيته بعد ساعتين وفقا لجداول الزيارات المفروض على القسم .. تشبثت أصابعه بيدها .. فطمأنته متماسكة :- لن أذهب إلى أي مكان .. سأعود لاحقا لرؤيتك .. أعدك
تركت يده .. وخرجت لتجد ماهر في انتظارها ... فلن تستطع كبح دموعها أكثر .. انهارت باكية كما لم تفعل يوما .. وكأنها قد استنفذت كل قدرة لديها على التماسك .. أمسكها ماهر .. وأجلسها على أحد المقاعد .. وهو يقول :- اهدئي يا نانسي .. ستؤذين نفسك والطفل بهذه الطريقة
ولكنها استمرت بالبكاء فأمسك ماهر بكتفيها وهزها برفق وهو ينظر إلى عينيها قائلا بحزم :- محمود بحاجة إليك يا نانسي .. يجب لأن تتسلحي بالقوة لتقفي إلى جانبه في محنته
كلماته كانت بالضبط ما احتاجت نانسي إلى سماعه كي تستعيد رشدها وتتماسك مجددا .. خاصة مع الأعين الحاقدة التي انصبت عليها كراهية لوجودها هنا
بعد ساعات .. غادر العم طلال متحججا بالأعمال المتراكمة والمسؤوليات الملقاة على عاتقه في غياب محمود .. ثم غادرت ريم برفقة أمها التي أصابها التعب بعد قضائها الساعات في انتظار أخبار عن محمود .. لم يبق هناك سوى ماهر وفراس اللذين ظلا إلى جانب نانسي طوال الوقت .. قال فراس وهو يجلس إلى جانبها :- أنا آسف لما فعلته كل من ريم ووالدتي يا نانسي .. إنهما قلقتان على محمود .. نحن هنا منذ البارحة وقد أرهقت أعصابنا جميعا من شدة القلق
تمتمت :- لست غاضبة منهما
كانت غاضبة .. ولكنها لم ترغب بإزعاج فراس الطيب القلب .. قال لها :- أنا سعيد لأنك هنا يا نانسي .. محمود بحاجة إليك .. وأنا لا أقول هذا بسبب الحادث .. فهو في حالة سيئة منذ تركته ورحلت .. محمود يحبك يا نانسي ولا يستطيع العيش بدونك
تقبلت كلامه صامتة ولم تعلق .. لم تستطع التفكير في هذه اللحظة بمشاكلها مع محمود .. كل ما كان يشغل عقلها هو شفاء محمود وعودته كالسابق .. قال لها ماهر بعد فترة :- نانسي .. أنت متعبة .. دعيني آخذك إلى البيت لترتاحي قليلا وسأعيدك لاحقا
قالت بحزم :- لن أتحرك من هنا حتى أطمئن على استقرار حالة محمود .. فلا تتعب نفسك بالإلحاح علي يا ماهر .. إن كنت متعبا فلتذهب .. لست مضطرا للبقاء
قال غاضبا :- هل تظنين بأنني عديم الرجولة لأتركك في ظرف كهذا يا نانسي .. لن أتركك وحدك حتى لو دفعتني دفعا من هنا
جاء لاحقا ضابط الشرطة لطرح أسئلة على نانسي فأجابت بمساعدة ماهر الذي حكى عن السيارة الزرقاء التي حاولت صدم نانسي أمام الكلية .. وعندما رحل قال ماهر :- أرجو أن يمسكوا بالمجرم الحقير في أسرع وقت .. من قد يرغب بإيذائك أنت ومحمود معا يا نانسي ؟
دخلت نانسي لرؤية محمود عدة مرات .. وفي كل مرة كانت تجده نائما .. فتجلس إلى جانبه تتأمل ملامحه الوسيمة الشاحبة بشوق ولهفة .. حتى تخرجها الممرضة بهدوء ولطف .. تم نقل محمود أخيرا بعد ذلك إلى غرفة خاصة بعد أن اكمئن الأطباء على استقرار حالته .. دخلت نانسي إلى الجناح المرفه المخصص له .. لتجده بين يدي الممرضات الحريصات على راحته .. والطبيب الذي انهمك بفحص مؤشرات محمود الحيوية وجروحه مطمئنا عليه قبل أن يغادر .. دخل معها كل من ماهر وفراس .. وأسرعا يهنئان محمود بالسلامة بينما رد هو عليهما شاكرا بهدوء .. وقد بدا رغم شحوبه وضعفه .. متماسكا وصلبا .. وكأنه يأبى التخلي عن هيبته رغم كل شيء .. نظر إلى نانسي التي وقفت بعيدا دون أن تتفوه بحرف .. وسألها بهدوء :- كيف حالك يا نانسي ؟
ارتجفت بلا سبب وهي تعجز عن الرد .. فاعتذر كل من ماهر وفراس .. وغادرا تاركين نانسي تواجه الموقف وحيدة
قال لها :- اقتربي
مشت بخطوات مرتبكة نحو السرير .. دون أن تجرؤ على النظر إليه .. ووقفت قريبا منه فقال :- ألن تنظري إلي ؟ أيبدو مظهري بشعا إلى هذا الحد بهذه الضمادات ؟
كلماته المداعبة .. كانت كافية لإشعال فتيل مشاعر نانسي المتحفزة للانفجار .. فتدفقت دموعها وهي تبكي بلا تحفظ .. رفعت يدها نحو فمها في محاولة منها لكبت شهقاتها التي تعالت بدون فائدة ... فاضطربت عيناه وهو يمد يده إليها .. فأسرعت تجلس على طرف السرير .. وتنحني نحوه داسة وجهها في تجويف عنقه .... تبكي وتبكي وهي تشم رائحته .. وتحس بدفئه غير مصدقة لأنه هنا .. إلى جانبها .. على قيد الحياة .. لم يكن قادرا على رفع يده نحوها .. وقد رغب بشدة في التخفيف عنها .. في لمسها .. والإحساس بها .. همس بانفعال :- انظري إلي .. أرجوك .. أريد أن أراك
رفعت رأسها .. ونظرت إلى وجهه الحبيب الذي لم يفصله عنها سوى مسافة قصيرة .. نظرت عيناه إلى وجهها تتأملان كل جزء من ملامحه الناعمة .. عينيها الباكيتين .. وفمها المرتجف .. قال بصوت أجش :- أريد أن أقبلك .. أرجوك
رجاءه مس فؤادها في الصميم ... فمالت بلا تردد تضع فمها على فمه بشوق تقبله بحرارة .. ثوان مرت .. دقائق .. لم تعرف .. وكل منهما غائب في شوقه إلى الآخر .. حتى اتكأت دون ان تدري على كتفه المصاب فتأوه مما جعلها تبتعد مذعورة وهي تهتف :- يا إلهي .. انا آسفة .. كم انا غبية
:- لا تعتذري .. إن كان علي ان اموت فأنا أفضل الموت بين يديك
أسرعت تضع يدها على فمه لتمنعه من الكلام قائلة بصوت أجش :- لا تقل هذه الكلمة مجددا .. انت لن تموت .. يجب ان تشفى وتخرج من هنا سليما معافى .. فابننا في حاجة إلى وجودك إلى جانبه
لم تعرف إلى أي حد أثارت كلمة ابننا الدفء في قلبه .. إلا انه نظر إلى وجهها قائلا برقة :- ابننا فقط
ارتبكت .. وقبل ان تجد ردا على استفساره .. ارتفعت طرقات على الباب .. دخلت بعدها كل من السيدة منار وريم التي تجاهلت تماما وجود نانسي .. وأسرعت تطبع قبلة ساخنة على خد محمود وهي تقول بلهفة :- حمدا لله على سلامتك يا محمود .. كيف تشعر الآن ؟ هل تتألم ؟
بينما قالت السيدة منار بصوت مفعم بالمشاعر :- لقد قلقنا عليك للغاية .. لم نتحرك من المستشفى حتى أكد لنا الطبيب بانك بخير .. وأن حياتك ما عادت في خطر
شكرهما محمود بهدوء .. بينما تراجعت نانسي إلى الخلف شاحبة الوجه .. وقد اعاد لها منظر تقبيل ريم له ذكرى ذلك المشهد الذي كان سببا في تركها البيت
قالت منار :- لا أصدق أن أحدا قد يرغب بقتلك .. ليس هناك من يكرهك أو يتمنى لك الأذى .. أتمنى ان يمسكوا بالفاعل في أسرع وقت لينال جزاءه ويتعفن في السجن
ثم نظرت إلى نانسي بطريقة ذات معنى جعلتها تصدم من التلميح الواضح .. هل تتهمها هذه المرأة بمحاولة قتل محمود ؟
ربتت ريم على وجنته وهي تقول بعاطفة جياشة :- لقد كدت اموت من القلق عليك .. الحمد لله أنك بخير الآن
تجاهل ريم وهو ينظر إلى نانسي التي تراجعت حتى وصلت إلى الباب وهو يقول :- نانسي .. إلى أين تذهبين ؟
نظرت إليه وهي ما تزال مذهولة من اتهام منار الضمني .. ومن الحميمية الصريحة التي غلفت معاملة ريم له .. وقالت باضطراب :- أنا .. يجب أن أذهب
كسا الوجوم وجهه وهو يقول :- لست مضطرة للرحيل
أسرعت منار تقول :- دعها تذهب يا محمود .. لقد قضت وقتا طويلا وهي تنتظر خبرا عنك .. لابد انها مرهقة .. لولا وجود صديقها الشاب الذي ساندها بحماس لانهارت من التعب
قالت ريم بلؤم :- هذا صحيح .. لقد نامت على كتفه عدة مرات في غرفة الانتظار .. المسكينة
أخفض محمود عينيه متحاشيا النظر إلى نانسي .. وقد خلا وجهه من أي تعبير .. وكأنه يدينها على وصف منار وريم لطريقة دعم ماهر لها .. ألا يستطيع أن يرى إلى أي حد كانت منهارة ؟ وأنها لولا دعم ماهر وسط رفض عائلته لما تمكنت من الصمود لحظة ؟
استعادت قوة صوتها وهي تقول :- أنت بخير الآن .. ولم تعد بحاجة إلي
تمتم بهدوء :- بالتأكيد
كبتت نانسي الألم العميق الذي أحست به .. لم يحاول محمود تصحيح كلامها .. لم يصر عليها لتبقى .. وكأن وجود عائلته حوله وريم بالأخص الملتصقة به في هذه اللحظات أكثر من كافي بالنسبة إليه
منعت دموعها بصعوبة من خيانتها .. وحافظت على هدوئها .. وما تبقى من كرامتها وهي تقول :- الوداع يا محمود .. وحمدا لله على سلامتك
استمر محمود في تحاشي النظر إليها .. فما كان منها إلا أن فتحت الباب وخرجت .. وأغلقته ورائها بهدوء شديد
إلى الأبد هذه المرة
تقييم المساهمة: 100% (1)
- ✎ مساهماتي : 601
- $ نقاطي : 19709
- ✿ الاعجابات : 54
- ♥ عمري : 23
- ✔ تسجيلي : 09/08/2014
.14/3/2015, 16:29
الفصل التاسع والعشرون و الاخير
بداية .. أم نهاية ؟؟
خرجت نانسي من قاعة الامتحان متعطشة لاستنشاق الهواء العليل .. وجدت ماهر برفقة مجموعة من زملاءه يتناقشون حول أسئلة الامتحان ويتجادلون حتى لمحها فاعتذر من رفاقه واتجه نحوها .. قالت له على الفور :- لنذهب إلى الخارج
خرجا من مبنى الكلية .. وجلسا على أحد المقاعد فسألها ماهر :- كيف أبليت ؟
نظرت إليه بتأنيب قائلة :- ما كنت لأطرح هذا السؤال لو كنت مكانك
قال بتعاطف :- لن يلومك أحد يا نانسي .. الكل يعرف ظروفك الصعبة مع حالة الدكتور محمود الصحية
قالت ساخرة :- هذا صحيح .. لقد أتاح لي مراقبو القاعة عدة فرص كي أسترق ا لنظر إلى إجابات الشاب الجالس أمامي تعاطفا مع ظروفي دون أن يعلموا بأنني لم أره منذ أسابيع .. بل انا لم أتحدث إليه ولو مرة منذ تركت المستشفى بلا رجعة فور تأكدي من نجاته .. وإلا لكانوا رموني خارج الجامعة غضبا من برودي وجحودي
هز ماهر رأسه قائلا :- لا تقسي على نفسك يا نانسي .. لقد كنت تتصلين بطبيبه يوميا للاطمئنان على حاله .. كما كنت تتواصلين مع إحدى الممرضات لتعرفي أخباره أولا بأول
فكرت بمرارة بأن هذا صحيح .. و يا ليتها لم تفعل .. إذ كانت تسمع باستمرار عن زيارات ريم المتكررة له .. وعن الفتيات الجميلات اللاتي كن يعدنه بين الحين والآخر .. وهي ليست غبية كي لا تخمن بأن نسرين إحداهن
تمتمت :- ولكنه قد خرج قبل عشرة أيام من المستشفى .. ولم تعد أخباره تصلني كالسابق .. أرغب فقط بأن أطمئن عليه .. أن أتأكد بأنه بخير
كان الطلاب يروحون ويجيئون حولهما بلا توقف .. وماهر ينظر إليها بإمعان لفترة طويلة قبل أن يقول بهدوء :- ألم يحن الوقت لإنهاء هذه المهزلة يا نانسي ؟
نظرت إليه بارتباك فقال :- أنت تحبين الرجل بجنون بحق الله .. تحبينه ولا تتوقفين عن التفكير به .. إلى متى ستستمرين بقطع أنفك كناية بوجهك ؟
تمتمت بألم :- أنت لا تعرف شيئا يا ماهر
قال بحزم :- أنا لا أعرف شيئا عما فعله الدكتور محمود .. أو ما دفعك لتركه .. ولكنني أعرف شيئا واحدا .. وهو أنك إن كنت تحبينه بما يكفي .. فستذهبين إليه .. وتتحدثين إليه .. واجهيه وصارحيه .. واسمعي منه .. امنحيه الفرصة ليبرر نفسه لك .. على الأقل حتى توقني بأنك قد استنفذت جميع فرص الصلح بينكما
ظهر العجز في عينيها وهي تتخيل نفسها ذاهبة إليه .. تصارحه بجميع شكوكها وأوهامها .. بخيانته لها وتاريخه المظلم مع النساء .. تخيلته يؤكد لها هذا فارتجفت .. وتمتمت :- لا أستطيع الذهاب إليه هكذا وبكل بساطة
:- بل تستطيعين .. أنت زوجته .. ومن حقك الاطمئنان عليه .. قلقك على صحتك سيمنحك العذر المناسب
عندما لاحظ ترددها ..أمسك يديها .. ونظر إلى عييها قائلا :- أنا وعائلتي سنبقى دائما معك يا نانسي .. ولكنني لا أريدك أن تندمي يوما وتفكري بما كانت ستؤول إليه الأمور لو أنك منحت الرجل الذي تحبين فرصة أخرى
مشاعر ماهر الصادقة جعلت قوة من نوع مختلف تنبثق داخلها .. قوة نابعة عم امرأة عاشقة .. طال شوقها لرؤية من تحب .. لاحظ ماهر التغير فيها .. فابتسم قائلا0:-اذهبي إليه يا نانسي .. وتأكدي بأن مكانك سيظل محفوظا بين أفراد عائلتي لو قررت العودة
منحته ابتسامة امتنان وهي تقف بحسم .. وقد اتخذت قرارها
نزلت من سيارة الأجرة طالبة من السائق أن يعود بعد ساعتين .. نظرت إلى المنزل الكبير وقد عاودها الجبن من جديد .. محمود هناك .. خلف هذه الأسوار .. ولكنه ليس وحيدا .. فهو محاط بأفراد عائلته .. هل ستقوى على مواجهة رفضهم وكراهيتهم لها ؟ .. هل ستحتمل رؤية ريم تحوم حول محمود ملقية عليه ظلال الماضي المخزي بينهما ؟
استجمعت شجاعتها وسارت نحو البوابة ليستقبلها الحارس بحماس مرحبا بها .. وهو يفتح لها الباب على الفور .. استقبلتها نجوى عند باب المنزل بذهول سرعان ما انقلب إلى سرور وهي تضمها بقوة وترحب بها .. وقد أسرعت باقي الخادمات ليرحبن بها بنفس الحفاوة .. قالت نجوى بتأثر :- لقد اشتقنا لك يا عزيزتي .. لا فكرة لديك عن كآبة هذا المنزل بدونك .. جميعنا كنا في انتظار عودتك إلينا
شكرتها نانسي وهي تنظر حولها بتوتر منتظرة أن ترى أحد سكان المنزل قائلة :- كيف حال محمود ؟ أظنه في غرفته .. أليس كذلك ؟
كانت قلقة من رؤية أحد أقارب محمود فيمنعها من الدخول والوصول إليه .. إلا انها لم تتوقع إجابة نجوى التي قادتها إلى غرفة الجلوس قائلة :- الدكتور محمود يثير جنوننا جميعا .. بالكاد التزم الفراش منذ خروجه من المستشفى .. وقد خرج منذ الصباح غير عابئ بتعليمات الطبيب واحتجاجنا جميعا
جلست نانسي كما جلست نجوى قريبة منها وهي تقول بقلق :- كيف استطاع الخروج في حالته تلك ؟ كيف سمحت له العمة منار بإهمال نفسه وصحته هكذا ؟
:- السيدة منار ليست موجودة .. لا أحد في البيت سوى السيدة الكبيرة
عبست نانسي قائلة :- لا احد في المنزل !.. أين هم جميعا .. لا أصدق تركهم لمحمود في هذه الحالة والخروج
:- لقد غادروا المنزل منذ ايام في سفر مفاجئ .. لا أحد يقول شيئا في هذه البيت .. والدكتور محمود صامت على الدوام .. بل هو نادر ما يبقى في البيت
أهذا يعني انها لن تراه هذه المرة ؟ جزء منها شعر بالراحة لان المواجهة قد تأجلت قليلا .. وجزء منها شعر بالحزن لانها لن تراه .. وان الفرصة قد لا تتاح لها مجددا للقدوم إلى هنا
نظرت حولها متمتمة ::- لا أرى حنان .. أين هي ؟
تبادلت نجوى نظرات الخبث مع الخادمات وقالت :- لا احد يرى حنان هذه الأيام .. فهي بالكاد تقوم بعملها مستغلة مكانتها لديك ولدى السيد محمود .. إنها تقضي معظم الوقت برفقة مأمون .. كلما كان موجودا .. وهي في الغالب تتحدث إليه في هذه اللحظة في الحديقة الخلفية
اتسعت عينا نانسي بذهول .. حنان ومأمون !! .. ثم ضحكت وهي تهز رأسها .. يجب ألا يدهشها هذا ... فحنان لن تجد رجلا طيبا ومرحا ومناسبا لها كمأمون
ثم عبست وقد تذكرت شيئا :- مأمون هنا .. هل هذا يعني بان محمود قد قاد سيارته بنفسه ؟
هزت نجوى رأسها قائلة بيأس :- لقد أخبرتك بانه يثير جنوننا
لم يكن امامها الكثير من الوقت قبل عودة سيارة الأجرة .. قررت زيارة الجدة وقد اشتاقت لرؤيتها والاطمئنان عليها .. وقد اخبرتها نجوى بأن الجدة لا تعرف شيئا عن حادث محمود .. لقد اخبروها بانه قد اضطر للسفر فجأة .. فلم تشك بشيء خاصة عندما ذهب إليها محمود فور وصوله من المستشفى مطمئنا إياها قدر المستطاع
طرقت الباب برفق .. ثم فتحته عندما سمعت صوت الجدة .. أدارت المرأة المسنة رأسها قائلة :- أهو انت يا محمود ؟
تمتمت نانسي :- إنها انا يا جدتي
تهللت أسارير الجدة وهي تقول لها بسرور :- حمدا لله على سلامتك يا عزيزتي .. لقد طال غيابك كثيرا ... لن اعاتبك على سفرك دون وداعي لأن محمود قد أخبرني باضطرارك للسفر فجأة إلى فرنسا لأجل شقيقتك
ارتبكت نانسي وهي تجلس إلى جانبها قائلة :- آه 00 أنا آسفة
لم تكن لديها فكرة عن تفسير محمود لجدته سبب رحيلها .. فقررت التزام الاجوبة المختصرة كي لا تخطئ بالكلام .. خاصة وقد لاحظت شحوب وجه الجدة وإرهاقها الواضح .. سألتها برقة :- كيف حالك يا جدتي ؟
تنهدت الجدة قائلة :- بخير .. إلا انني قلقة على محمود .. لا يبدو لي طبيعيا منذ عودته من السفر .. الحمدلله انك قد عدت اخيرا لأنني أظن تعبه عائد إلى غيابك عنه .. هكذا كان محمود دائما .. شديد الحرص والتعلق بما هو له .. وقد لاحظت أنت بالطبع علاقته الوثيقة بأقاربه
تمتمت نانسي :- بالطبع
بحثت الجدة بيدها عن يد نانسي فأسرعت تقدمها لها طائعة .. قالت الجدة برقة :- أعرف بانك تكرهين وجود أشخاص آخرين حولكما ولم يمض على زواجكما أشهر قليلة .. وأخمن بأن سبب سفرك الرئيسي عائد إلى رفضك لوجود ريم ومنار وباقي أفراد العائلة .. أي امرأة كانت لتفعل المثل
لم تعرف نانسي ما تقول أمام بصيرة المرأة الحادة .. من الواضح بان محاولات محمود لإخفاء الوقائع عنها ليست مجدية تماما .. حتى عندما أخفى عنها أمر الحادث الذي تعرض له .. لم ينجح في تجنيب جدته القلق بسبب غريزتها المتيقظة
أكملت الجدة دون أن تنتظر ردا :- لابد أنك قد تفهمت الأمر الآن بما أنك قد عدت .. محمود لا يستطيع إبعاد عائلته عنه بسبب خوفه من تكرار ما حدث مع والديه .. تعرفين طبعا بان الحادث الذي أدى إلى وفاتهما كان مدبرا
لا . لم تكن تعرف .. حبست نانسي انفاسها وهي تستمع إلى وقائع كانت مجهولة لها تماما عن حياة محمود
:- كان من المفترض به أن يرافقها ذلك المساء .. ولكنه فضل البقاء ليدرس فلم يمانع والداه .. توفيا بحادث سير مريع .. انحرفت السيارة عن الطريق لأسباب مجهولة واصطدمت بعمود إنارة ضخم .. توفيا على الفور .. ولم يسامح محمود نفسه أبدا على ماحدث
أسرعت نانسي تقول بحرارة :- ولكن الحادث لم يكن ذنبه هو
:- لم يكن ذنبه .. ولكنهما ماتا .. وبقي هو حيا .. وهذا كان ذنبا كافيا لابن الثامنة عشرة .. انتهت التحقيقات .. واتضح بان الحادث كان مدبرا .. وأن أحدهم قد عبث بسيارة والده ليفقد تحكمه بها ... ولم يعرف الفاعل أبدا رغم وجود الكثير من الاعداء لوالده مرجل اعمال معروف
لم تكن نانسي بقادرة على استيعاب كل هذه المآسي التي عانى منها محمود في حداثته .. احست بالشفقة والعطف اتجاه الفتى الشاب الذي وجد نفسه عاجزا عن الإمساك بقاتل والديه .. تمتمت :- لابد ان الأمر كان صعبا عليه
:- أ:ثر مما يمكنك أن تتخيلي .. عندما انتقل عمه للإقامة معه برفقة زوجته وأولاده .. كانت قد تشكلت لدى محمود نوع من عقدة الحماية اتجاه أحباءه .. وجودهم إلى جانبه وتحت انظاره كان يضمن له أ، يقوم بحمايتهم كما يجب من ان يتعرض احدهم لأي أذى .. لهذا تجدينه متمسكا بهم .. ولهذا يجب أن تفهمي إصراره على بقاءهم حوله .. ليس لأنه يفضلهم عليك .. بل لأنه محمود .. الذي لا يستطيع منع نفسه من حماية غيره والعناية بهم .. إنها جزء من طبيعته .. الإحساس بالمسؤولية اتجاه من يحب .. وعلى الأرجح .. غيابك عنه كل هذه الفترة أرهقه إلى حد كبير .. فهو لن يشعر بالاطمئنان والراحة إلا إذا كنت تحت انظاره
صدقت نانسي كلمات الجدة على الفور .. وتذكرت غضبه عندما أخبره ماهر بالحادث الذي كادت تتعرض له .. ولومه لها لأنها لم تسمح له بحمايتها بطريقته .. تخيلته يهرع خارجا من مكتبه متجها إليها وكله لهفة لاحتضانها .. والعناية بها لولا الحادث الذي تعرض له
أحست بغصة تقف في حلقها فابتلعتها مرغمة .. لن تزعج الجدة بعرض مبتذل للمشاعر الآن .. تحدثت إليها قليلا .. ثم استأذنت لتقول لها الجدة قبل أن تخرج :- لن ترحلي مجددا .. أليس كذلك يا نانسي ؟
لم ترغب نانسي بالكذب عليها .. ولكنها في النهاية تمتمت مرغمة :- لا .. لن أرحل
نزلت الدرج ببطء وهي تفكر بكل كلمة سمعتها من الجدة .. وبالوعد الذي قطعته لها دون أن تنوي تنفيذه .. فلفت نظرها صراخ حنان باسمها وهي تقطع الدرجات نحوها .. فلفت نظرها صراخ حنان باسمها وهي تصعد الدرج نحوها لتضمها بلهفة قائلة :- حمدا لله على سلامتك يا نانسي .. لقد نورك بك المنزل .. قولي بانك قد عدت لتبقي .. فقد اشتقنا لك جميعا
قالت نانسي بخبث :- نعم .. أصدق بأنك لم تنقطعي عن التفكير بي .. أيتها الكاذبة .. ما أن أدير ظهري حتى تعبثين من ورائي مع مأمون
احمر وجه حنان وهي تتمتم :- الثرثارة نجوى
ضحكت نانسي لخجل حنان المفاجئ .. وربتت على كتفها قائلة :- أنت تستحقين السعادة يا حنان .. مبارك لك
برقت عينا حنان وهي تقول :- هناك الكثير لأحكيه لك .. هل تصدقين بأنه قد طلب يدي من....
بترت كلامها عندما لاحظت بان نانسي لا تستمع إليها .. وأن أنظارها المتوترة قد تركزت عند نقطة في الأسفل .. فاستدارت لترى محمود يدخل باب المنزل .. ويعبر البهو راميا سترته عن كتفيه فوق أحد المقاعد بحركة عنيفة .. وقد ظهر الغضب المكتوم على ملامحه وهو يعتلي الدرج .. ليتسمر مكانه فور ملاحظته لنانسي .. تقف على بعد درجات عنه .. جامدة مثله .. وكأنها لم تتوقع رؤيته
اهتزت عيناه حتى الأعماق وهو يلتهمها بعينيه .. كانت ترتدي قميصا أصفر بياقة مثلثة .. وتنورة حريرية بنية اللون هفهفت حول ساقيها بنعومة .. شعرها الذهبي كان حرا حول وجهها وخلف ظهرها مانحا إياها هالة ملائكية .. لم يعكرها سوى التعبير الحذر الذي ارتسم على ملامحها .. وهي تنظر إليه بنفس التصفح
بدا لها أكثر نحولا بقميصه الأبيض .. وسرواله الأسود الأنيق .. كانت يده محمولة بحامل قماشي معلق بعنقه .. وجهه الوسيم كان شاحبا ومرهقا .. شعره الناعم كان أطول من المعتاد وقد تدلت خصلة متمردة على جبينه لتمنحه مظهرا بعيدا عن وقاره المعتاد ... ذقنه كانت نامية وكأنه لم يحلقها منذ يومين .. برغم كل هذا .. لم يبد لها يوما اكثر جاذبية .. أحست بشوقها إليه يخنقها .. وبرغبة عارمة في قطع المسافة الفاصلة بينهما .. وغمره بذراعيها .. والإحساس بقوته ودفئه من جديد .. والتخفيف عنه وقد بدا لها تعيسا للغاية وهو ينظر إليها دون أن يفارقه الذهول بعد لرؤيتها
تقييم المساهمة: 100% (2)
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الفصل العشرون
ألم لا ينتهي
تركت نانسي أوراقها عندما دوى رنين هاتفها المحمول المرمي إلى جوارها على الأريكة حيث كانت تحاول جاهدة ان تدرس في غرفتها .. ابتسمت عندما لمحت اسم ماهر وأجابت عن المكالمة قائلة :- لا .. لست ندى .. لقد اخطأت الرقم
ساد الصمت للحظات طويلة كادت خلالها تنفجر ضاحكة .. قبل ان تسمع نحنحته المحرجة وهو يقول :- لا .. لم أخطئ الرقم .. كيف حالك يا نانسي .. لقد أصبحت كسولة هذه الأيام بغيابك المتكرر عن الجامعة
كانت تحب إغاظته منذ بدأت الخيوط الوردية تلف علاقته بندى زميلتهما الحسناء الخجول .. ولمعرفتها بأن ماهر أكثر خجلا في هذه الأمور من صديقته تجاهلت الموضوع قائلة :- لا أشعر برغبة في رؤية أحد .. أو حتى الخروج من غرفتي
قال بتعاطف :- أمازلت حزينة بسبب سفر لينا ؟
ابتلعت غصة وهي تتذكر سفر لينا قبل أسبوع .. لقد منعت نفسها بصعوبة من البكاء وهي تودعها في المطار .. لم تبك حتى بعد أن عادت إلى البيت .. اكتفت بحبس نفسها في غرفتها في عزلة عن العالم الخارجي تفكر بمسار حياتها الغريب .. لم تفكر قبل أشهر قليلة بأن الأمر سينتهي بها يتيمة الأبوين ... بلا أخت تؤنس وحدتها وتمنحها الدعم .. متزوجة من رجل لا تعرف مشاعره او نواياه اتجاهها
ما الذي منعها بالضبط من مصارحة خالها بعدم سعادتها في هذا البيت .. والسفر برفقته وبرفقة لينا ؟ .. لا تعرف .. ولكنها حتما لم ترغب بالابتعاد عن محمود وتركه للفتيات المستعدات دائما للحلول مكانها .. الحالة الوحيدة التي ستدفعها للرحيل هي يقينها التام من عدم حبه لها .. أو خيانته لها .. وهو ما لم يحدث حتى الآن .. وهي لن تتحرك من هنا حتى تعرف ما يخفيه عقل زوجها الغامض عنها
تمتمت :- لقد بدأت أعتاد على الامر
:- هل سأراك صباح الغد إذن ؟ الامتحانات على الأبواب .. وعليك تعويض ما فاتك .. سأصور لك محاضرات الأسبوع الماضي طبعا وسأحضرها معي غدا
ابتسمت وهي تتخيل الاخلاص في عينيه البنيتين من الطرف الآخر وقالت ممتنة :- شكرا لك يا ماهر .. لا أعرف حقا ما كنت لأفعله من دونك
انتفضت عندما دوى صوت انصفاق باب الغرفة .. والتفتت نحو محمود الجامد الملامح مما ناقض نيران الغضب المستعرة في عينيه .. تعمدت أن تقول وهي تلاقي نظرات محمود بتحدي :- اتطلع بشوق لرؤيتك صباح الغد يا ماهر .. إلى اللقاء
أنهت المكالمة ونظرت إلى محمود الذي خلع معطفه الثقيل ورماه على السرير بإهمال فقالت بلا مبالاة :- لقد عدت باكرا
قال بجفاف :- نعم فعلت .. لقد ظننت بأن زوجتي الحزينة لفراق شقيقتها بحاجة إلى مواساتي .. لأجد بأن حبيب القلب قد قام بهذه المهمة
وقفت قائلة بحدة :- لا تقل هذا عن ماهر .. لقد سبق وأخبرتك بأننا صديقين فقط
تقدم نحوها وهو يصيح غاضبا :- وقد سبق وأخبرتك بأنني أرفض مصاحبتك له والتسكع معه
قالت بعناد :- لا تستطيع منعي .. أنا حرة وأستطيع فعل ما أريد
قبض على ذراعها فجأة وشدها إليه قائلا من بين أسنانه :- هل تتحدينني يا نانسي ؟
كبتت صيحة ألم سببته لها أصابعه القاسية .. ورفعت عينيها الخضراوين نحوه لتصدم بقربه الشديد منها .. تمكنت من استنشاق رائحة عطره .. بينما تجولت عيناه الغاضبتان فوق صفحة وجهها قبل أن تتوقفا عند فمها الناعم .. لم تخطئ فهم اللهيب الذي حل محل الغضب في نظراته .. المشكلة هي أن اضطرابا غير مرغوبا به بدأ يسري في كيانها .. إذ أخذت نبضات قلبها تتسارع وهي تشعر بحرارة أنفاسه تلفحها ..لا .. لن تسمح لنفسها أبدا بالضعف أمامه
رفعت ذقنها وهي تقول بوقاحة :- ما الأمر ؟ هل ستغتصبني مجددا
توتر فمه وعاد الغضب يكتسح الرغبة في أعماق عينيه الداكنتين .. قست أصابعه حول ذراعها حتى كادت صيحة الألم تفلت من بين شفتيها .. قال ببرود :- حصول ا لرجل على ما هو له لا يسمى اغتصابا
قالت بغيظ :- أنا لم ولن أكون لك أبدا
شدها إليها حتى التصقت به وهو يقول بخشونة :- هل تراهنين ؟
ارتجفت وهي تشعر بقوة عضلات صدره تعانقها .. وذراعيه المحكمتين حولها .. أحست بخدر غريب يلفها وقد سيطرت عليها جاذبيته فلم تستطع دفعه بعيدا .. أما هو .. فقد نظر بقسوة إلى اضطرابها الشبيه باضطراب الفأر العالق في المصيدة .. ثم مط شفتيه بازدراء وهو يقول :- للأسف الشديد .. لا مزاج لدي اليوم لتناول وجبة باردة لا حياة فيها
عندما تركها كانت وجنتاها قد احمرتا غيظا وهي تغمغم بحقد :- أكرهك
ابتعد وهو يقول ببرود :- وكأن مشاعرك نحوي تهمني بأي طريقة .. أظن بأن العمة منار قد أخبرتك عن الحفل الذي يقيمه السيد رفيق محجوب
دلكت ذراعها حيث كان يمسك بها وهي تقول :- طبعا أخبرتني
:- هذا جيد .. اشتري لنفسك ثوبا جديدا ملائما للمناسبة .. فهذا سيكون ظهورنا الأول أمام الناس والمجتمع
غاظتها طريقة كلامه الباردة وكأنه يتحدث إلى مستخدم لا قيمة له لديه .. قالت بتهكم :- أه .. تذكرت بأنك تزوجتني لأشرفك أمام الناس .. أمرك سيدي .. سأشتري ثوبا جديدا وأبدو في أروع مظهر ممكن يليق بسيادتك .. سيدي .. هل من أوامر أخرى ؟
كان قد فتح باب الغرفة بنية الخروج وكأنه لم يعد يحتمل البقاء معها في مكان واحد .. التفت إليها ونظر إليها ببرود شديد وهو يقول :- لا تراهني كثيرا على حسن حظك يا نانسي .. مهما كان صبري طويلا فإنه سينفذ في النهاية
ثم غادر تاركا إياها تفكر بكلماته بقلق .. هي لا تتعمد ابدا إثارة غضبه .. ولكنها تفعل هذا كوسيلة دفاع كلما أحست بنفسها ضعيفة أمامه .. زفرت بقوة وهي تتجه نحو النافذة .. لا مزاج لها لحضور ذلك الحفل .. وأين المتعة في لقاء أشخاص لا تعرفهم يحدقون بها وهو يفكرون بوالدها وبما دفع محمود للزواج منها ؟
رفيق محجوب هو رجل أعمال مرموق .. وصديق قديم للعائلة .. الكل مدعو لحضور الحفل.. العم طلال وزوجته .. ريم وفراس .. وهذا يعني أنها يجب أن تبذل مجهودا مضاعفا في الاهتمام بنفسها كي تثير غيرة ريم وغيرها من الفتيات بينما هي ترافق محمود
على غير عادتها لم تثر فيها الفكرة الحماس .. وتمنت لو تجد عذرا يمنعها من الذهاب .. ولكنها لا تظن محمود قد يمنحها أي عذر خاصة بعد الطريقة التي أغضبته فيها
اختارت للمناسبة ثوبا بلون التوت .. بدا رائعا على بشرتها القمحية الناعمة .. والتف حولها ملفتا النظر إلى جمال وتناسق جسدها النحيل .. كان محتشما بشكل خادع .. فالذراعين وأعلى الصدر والظهر كاملا كان مغطى بالدانتيل الشفاف المطرز بنعومة .. بينما أظهرت التنورة الضيقة والواسعة من الأسفل كالسمكة انسيابية جسدها .. تحلت بالعقد الماسي الذي أعطاها إياه محمود صباح اليوم بلا مقدمات وهو يقول بجفاف بأن الناس ستنظر فورا نحو عنقها وأذنيها ليقيموا حليها وإن كانت ملائمة لزوجة محمود فاضل أم لا
زينت أذنيها بالقرط الماسي الذي تدلى ملفتا النظر إلى عنقها الطويل الرشيق .. ثم تبرجت ببراعة وصففت شعرها على شكل تاج صغير تدلت منه خصلات ناعمة التفت حول وجهها
بدت رائعة .. بل مذهلة الجمال .. تاقت لتعرف رأي محمود بها .. ولكنها تعمدت أن ترتدي ملابسها في الحمام وتتأخر حتى تتأكد من خروجه كي تجعل مظهرها مفاجأة له
ارتدت معطفها الجميل المحلى بالفراء .. وخرجت من غرفتها وهي تتهادى فوق حذاء مذهل عالي الكعبين
كان محمود في انتظارها في البهو برفقة عمه وفراس وقد ارتدى كل منهم حلة كاملة شديدة الأناقة فبدا الثلاثة بهجة للنظر .. اما محمود فقد بدا رائعا وشديد الوسامة وهو ينظر إليها خلال نزولها الدرج ببطء .. لم ير شيئا من فستانها بعد .. إلا ان عيناه تعلقتا بوجهها الجميل المتورد مما جعلها ترتعش خجلا
السيدة منار كانت جاهزة أيضا بفستان كلاسيكي أسود في غاية الاناقة .. نظرت إلى الساعة قائلة بنزق .. ستؤخرنا ريم كالعادة
دوى صوت ريم من الأعلى يقول :- انا جاهزة .. لا داعي لمزيد من التذمر
إن كانت نانسي تخبئ تأثير مظهرها حتى وصولها إلى الحفلة .. فإن ريم كانت بالعكس منها .. تمسك بمعطفها بيدها .. وتسير متمايلة بفستان رائع الجمال .. بزرقة داكنة .. عاري الصدر والذراعين .. أظهرت تنورته القصيرة جمال ساقيها الطويلتين
نظرت إلى محمود بدلال وهي تخاطب والدها :- انا جاهزة يا أبي .. لنذهب قبل أن نتأخر
ثم نظرت إلى نانسي مبتسمة بلؤم :- لا اطيق صبرا للوصول إلى الحفلة .. لدي إحساس بانها ستكون حفلة الموسم
رفعت نانسي رأسها وبادلتها نظرات التحدي وهي تتأبط ذراع محمود قائلة بنعومة :- هل نذهب ؟؟؟
قال بحزم :- هيا بنا
طبعا استعملت العائلة سيارتين .. واتجهت نحو مكان إقامة الحفلة في أحد أكبر فنادق المدينة .. صالة الاحتفال كانت واسعة للغاية وفي غاية الفخامة .. وقد زينت باحترافية من قبل خبير .. فور أن خلعت معطفها انصبت نظرات الآخرين عليها .. لم يستطع محمود إزاحة عينيه عن جسدها الملفوف في القماش ذي اللون المثير .. وقد أطلت من عينيه نظرة قالت الكثير رغم صمته الثقيل .. لفتا الأنظار فور دخولهما الصالة حيث أسرع السيد رفيق يحييهما برفقة زوجته الجميلة ذات الشعر المصبوغ .. التي رحبت بمنار وريم بحرارة .. بينما حيت نانسي بتحفظ وهي تهنئها على الزواج وتتأملها بفضول شديد .. كان على نانسي أن ترسم على شفتيها ابتسامة باردة وهي تتلقى نظرات الناس التي لاحقتها أينما ذهبت .. الرجال لم يتوقفوا عن التحديق في جمالها الغريب .. والنساء في تقييمها بالنظرات والهمسات .. بل أنها سمعت اسم والدها أكثر من مرة .. قالت زوجة السيد محجوب وهي تهنئ محمود :- مبارك يا محمود .. ليت والدتك كانت موجودة لتقابل عروسك الجميلة .. نسرين هنا في مكان ما وسترغب في رؤيتك بالتأكيد .. هي أيضا متحمسة للقاء عروسك
تجمدت نانسي وأحست بالهواء يقل من حولها .. نسرين هنا .. لماذا ؟ هل هي ابنتهما ؟ لماذا لم يخبرها محمود ؟.. ولماذا يخبرها إن كان لا يعرف بأنها قد أخذت فكرة مسبقة من ريم عن علاقته بها ؟
لم يظهر أي رد فعل عليه وهو يقول باسما :- سأراها لاحقا بالتأكيد
أما ريم فقد ابتسمت بتشفي مما جعل نانسي تعرف سبب تشوقها لحضور الحفلة .. أمسك محمود بمرفقها وجذبها إلى داخل القاعة قائلا :- ما الأمر ؟ تبدين شاحبة ؟
تمتمت بتوتر :- أنا قلقة فحسب .. فأنا لا أعرف أحدا بينما يعرفك الجميع ويسرع للترحيب بك بينما يجبرون أنفسهم حتى على النظر إلي
نظر إليها متفحصا وهو يقول :- أنت زوجتي .. ومن يعرفني يجب أن يعرفك شاء أم أبى .. أنا متأكد بأنك واهمة .. لقد وصلنا للتو وها أنت تسمحين لشبح فضيحة والدك بإفساد وقتك
منعت نفسها بصعوبة من اطلاعه على السبب الحقيقي لتوترها .. فهي ستقابل الفتاة التي كان من المفترض بمحمود أن يتزوجها .. إن كانت خطيبته كما قالت ريم وقد أخلف بوعده بالزواج من أخرى فلم يظهر الغضب أو الانزعاج على والديها وهما يرحبان به .. نفورهما كان موجها نحوها فقط
سرعان ما بدأ معارف محمود بالتوافد لتهنئته والتحدث إليه حول العمل والسياسة كعادة الرجال .. بينما بدأت النساء بتقبلها والاندماج مع خلفيتها الارستقراطية التي جعلتها واحدة منهن رغم سمعة والدها .. العقد الماسي المحيط بعنقها قد قام بفعله وأسال لعابهن وجعل الاحترام يقفز فورا ليغلف معاملتهن لها .. لقد كان محمود محقا في فهمه للمجتمع
كانت تتحدث إلى سيدة مسنة .. تومئ لها بصبر متظاهرة بالاستماع حتى أحست بأنها أصبحت بعيدة عن محمود .. اعتذرت للسيدة وقد وجدت أخيرا عذرا يمكنها من الفرار .. ثم أخذت تبحث بعينيها هنا وهناك عن زوجها حتى وجدته واقفا برفقة صاحب الدعوة ورجل آخر .. يتبادلون حديثا جديا فأخذت تراقبه وتتأمله بشغف من بعيد .. متعجبة من نفسها .. كيف غفلت يوما عن وسامته الشديدة وجاذبيته الفياضة .. كيف تتلمذت على يديه لسنوات دون أن أقع في حبه ؟ هل كنت عمياء وأنانية إلى حد العجز عن رؤية أي شيء غير نفسي في تلك الفترة ؟
اقتحمت فتاة الجمع الرجالي فجأة وهي تقول شيئا وهي تضحك أثار ضحك الرجال .. نظرت إلى محمود وكلمته بحرارة وكأنها تعرفه منذ فترة طويلة .. بينما رد عليها هو بعفوية جعلتها تتأبط ذراعه بدلال وهي تحدث السيد رفيق
خفق قلب نانسي بقوة .. أحست بأطرافها باردة للغاية وهي تحدق في الفتاة الحسناء .. كانت شديدة الجمال ببشرة سمراء ناعمة لا شائبة فيها .. وشعر شديد السواد انسدل خلف ظهرها بحرية .. كانت ترتدي ثوبا أبيضا احتضن قوامها الأنثوي بإحكام مظهرا تفاصيله .. من تكون هذه المرأة ؟ هل هي .. ؟
لم تكن بحاجة إلى مزيد من التساؤل .. فقد سمعت صوت ريم يقول من خلفها .. :- لماذا تقفين وحيدة يا عزيزتي ؟
تلقائيا نظرت إلى حيث تحدق نانسي المتوترة .. ثم ابتسمت بخبث قائلة :- رأيت نسرين إذن .. ما رأيك بها ؟ جميلة .. صحيح ؟.. تعتبر نسرين من أشهر فتيات المجتمع الراقي وأكثرهن جمالا وثراءا .. أرجو ألا تشعري بالتهديد منها
قالت نانسي بتوتر :- ولماذا علي أن أفعل ؟
تجاهلت ريم سؤالها .. ونظرت إلى محمود ونسرين الذين أصبحا وحيدين فجأة وقالت :- ألا يبدوان جميلين معا ؟ .. يليق كل منهما بالآخر وكأنه قد خلق له
ثم نظرت إلى نانسي قائلة بتشفي :- ألم تدركي يا عزيزتي حتى الآن بأنك سخرية الحفل ؟ الكل يعقد المقارنات بينك وبين نسرين .. الكل يتساءل عما أصاب محمود ليتزوج بفتاة مثلك ويترك امرأة حقيقية مثلها .. لا أستطيع أن أحسدك بعد الآن ...فكل ما أشعر به اتجاهك هو الشفقة يا نانسي
تركتها وفي عينيها بريق الانتصار .. وعادت إلى مجموعة من الفتيات انفجرن في الضحك فور بدأت ريم بالكلام وهن ينظرن إلى نانسي المجروحة .. كالعادة كان غضبها هو وقود قوتها .. فوجدت نفسها تسير نحو محمود ورفيقته التي كانت تقول له شيئا وفي عينيها نظرة عتاب مغناج .. قطع رده الهادئ فور أن رأى نانسي القادمة نحوهما .. لاحظ على الفور نظرة عينيها التين امتلأتا بدموع الغضب .. فأسرع يقول وهو يمد لها ذراعه :- أين كنت يا نانسي ؟ لقد بحثت عنك طويلا ..
آه .. نعم .. وأنا أستطيع الطيران .. :- أقدم لك نسرين .. إنها ابنة السيد رفيق
قالت نسرين وهي تبتسم لنانسي ببشاشة :- سررت لمعرفتك يا نانسي .. لقد سمعت عنك الكثير .. ليس من محمود بالطبع فهو شديد التكتم لابد وأنك قد عرفت هذا بنفسك بعد أشهر من الزواج
العبارات المبتهجة لم تخدعها .. والمعنى الخفي لم يفتها كما لم يفتها توتر محمود عنما قالت نسرين بدلال :- ابنة السيد رفيق !! تقولها وكأننا غريبين يا محمود .. وكأننا لا نعرف بعضنا جيدا منذ فترة طويلة
ثم عادت تنظر إلى نانسي التي يكاد الغيظ يأكلها ..وقالت :- لقد كنت أعاتب محمود لتوي على إخفائه إياك عن الجميع .. لا أعرف حقا سبب إقدامه على هذا .. فأنت حلوة للغاية .. وأظن بأننا سنكون صديقتين
في أحلامك .. ابتسمت نانسي وهي تقول ببرود :- بالتأكيد
أمسكت نسرين بذراع محمود وهي تقول لنانسي :- سأسرق منك محمود قليلا .. فأخي يبحث عنه منذ فترة لبحث موضوع معين معه .. أنت لا تمانعين .. صحيح
قالت نانسي مبتسمة ببرود :- على الإطلاق ..
لاحظ محمود الغضب البارد تحت القشرة الهادئة لنانسي .. فخاطب نسرين قائلا :- سألحق بك بعد قليل
رفرفت الفتاة له بعينيها قبل أن تبتعد وهي تتمايل بدلال جعل دماء نانسي تفور .. قال لها :- هل من مشكلة ؟ تبدين غاضبة ؟
لا والله لن تفرحه بإظهار الغيرة القاتلة التي تشعر بها .. ابتسمت قائلة بفتور :- ولماذا أغضب ؟ أنا أشعر بالملل فقط
بدا الاعتذار على وجهه وهو يقول :- أنا آسف لأنني قد تركتك وحيدة .. لدي الكثير من المعارف والشركاء بين الحضور .. أعدك بأن أتفرغ تماما لك بعد دقائق
قالت بابتسامة جامدة :- لا تقلق .. سأكون بخير .. كما أن ريم تقوم بواجبها في تسليتي كما يجب
عبس قائلا :- ماذا تقصدين ؟
قالت بابتسامة حلوة :- أقصد ما فهمته يا زوجي العزيز .. من الواضح أنك تعرف ابنة عمك جيدا لتقدر مدى استمتاعها بهذا الحفل .. إنها ترغب بمشاركتي في متعتها فقط
ارتفع صوت نسرين ينادي محمود عبر القاعة المزدحمة .. فنظر إليها بنفاذ صبر وهو يقول لنانسي :- سنتحدث لاحقا .. وستفسرين لي كلامك
ابتعد تاركا إياها .. فانزوت في مكان بعيد وهي تحتسي كوبا من العصير قدمه لها أحد المضيفين .. كانت تشعر بالحزن والاكتئاب في مكان ممتلئ بأشخاص يكرهونها .. أحست بالصغر وانعدام الثقة بالنفس وهي تفكر بنسرين .. تلقائيا بحثت عنها بعينيها لتجدها كما توقعت تكاد تلتصق بزوجها المنهمك في الحديث مع شاب يشبه نسرين قليلا .. تأملت الفتاة مليا وهي تتذكر كلمات ريم .. (الكل يتساءل عما أصاب محمود ليتزوج بفتاة مثلك ويترك امرأة حقيقية مثلها)
ما الذي يميزها عنها .. فنانسي لا تقل عنها جمالا .. إنها تفتقر فقط لامتلاك جسد ناضج الأنوثة كجسد نسرين .. جسد امتلأ بالمنحنيات والارتفاعات الواضحة عبر الفستان الضيق .. والمحملة بدعوة صريحة لأي رجل
كزت على أسنانها بغضب وقد أعمتها الغيرة .. لا .. محمود لا يهتم لهذا النوع من الجمال وإلا ما كان تزوج بها هي .. ولكنه أيضا تزوج بها ليساعدها في تخطي مشاكلها وليس لأنه مغرم بها
.. انصرف الشاب تاركا محمود ونسرين وحدهما .. التفتت نسرين نحوه وأخذت تتحدث إليه وهي تمرر أصابعها ذات الأظافر المطلية فوق سترته السوداء الأنيقة وهي تقول شيئا .. بينما تتبع هو لمستها بعينيه ثم عاد ينظر إليها
أحست نانسي وكأن يدا ثقيلة تهوي على وجهها .. بالكاد لاحظت نظرات الناس إليها .. وقهقهة ريم وصديقاتها وهي تندفع كالعمياء نحو أقرب مخرج أوصلها إلى الشرفة .. كان البرد شديدا ولكنها بالكاد أحست به
تفجرت دموعها وسالت كالأنهار فوق وجنتيها وشهقاتها تتعالى بانهيار .. أحست بأنها تختنق .. وبرغبة عارمة بأن تموت الآن عل شيئا من ألمها يزول ويختفي .. علها تنسى ما رأته قبل لحظات
لقد كانت نسرين تقف إلى جوار محمود على بعد مسافة منه .. مظهرهما ما كان ليوحي بأي شيء لولا أن نانسي رأت بوضوح النظرة التي ارتسمت في عيني محمود وهو ينظر إلى نسرين
لقد كانت نظرة مفعمة بالرغبة .. الرغبة الخالصة ..
تلك النظرة التي رأتها ليلة حصل محمود عليها .. أحست وهي تتذكرها بطعنة نجلاء تشق قلبها إلى نصفين ... لماذا .. لماذا ؟
تعالى نشيجها وهي تشعر بالألم ينخر في صدرها بلا رحمة .. لقد قتلتها تلك النظرة .. فهي لم تكن مجرد نظرة .. لقد كانت اعترافا .. اعترافا بحقيقة العلاقة التي ربطت بين محمود ونسرين فيما مضى .. اعترافا بأن في قلب محمود مشاعر جياشة نحو نسرين .. اعترافا بأنه لم يحبها يوما .. وإلا ما كان انجذب لغيرها بهذه السهولة
أحست بالغضب الشديد .. بالقهر والإذلال .. عاد إليها ذلك الشعور يوم عرفت بأن محمود هو من أنقذها .. الشعور بأنها واجب حمله محمود فوق ظهره دون أن يرغب ..
ارتفع رنين هاتفها من داخل حقيبتها الصغيرة .. أهملته إلا أنه عاد للرنين بإصرار .. فأخرجته بيد مرتعشة مدركة تماما هوية المتصل .. فور ردها كان صوته يهتف بغضب :- أين أنت يا نانسي بحق الله ؟ أبحث عنك منذ نصف ساعة
هتفت بعنف :- ما الذي تريده مني ؟ لا أريد أن أراك أبدا
.. في ظروف أخرى كان ليرد على ثورتها بعنف .. إلا أنه لاحظ البكاء في صوته.. قال بتوتر :- هل أنت تبكين ؟ ما الذي حدث ؟
وكأنها كانت في انتظار سؤاله لتجهش في البكاء فقال بحدة :- أين أنت ؟ أخبريني الآن أين أنت بالضبط ؟
وجدت نفسها تخبره تحت إلحاحه .. وإذ به ينهي المكالمة فورا .. حاولت تمالك نفسها كي تستعيد شيئا من قوتها أمامه ولكنها لم تستطع .. نظرة عينيه وهو يلتهم منحنيات جسد نسرين الفاتنة كانت تذبحها في الصميم
وعندما سمعت صوت زجاج الباب يزاح .. وصوته يقول :- البرد قارص أيتها المجنونة .. هل تنوين قتل نفسك ؟
ضغطت أصابعها على زجاج الكأس بقوة جعلتها تتحطم في يدها فأسرع نحوها ليمسك بمعصمها وهو يشتم ويحاول إبعاد الشظايا عن يدها الدامية ثم يخرج منديلا من جيبه ليحيط جرحها به وهو يقول :- متهورة كالعادة وبحاجة إلى وصي يلاحقك كظلك
عندما نظر إلى وجهها لاحظ انهيارها وارتعاش جسدها الشديد فهتف من بين أنفاسه :- رباه .. ما الذي حدث لك يا نانسي؟
عادت تبكي بنفس الحرقة فأسرع يخلع سترته ويضعها حول كتفيها المرتعشين وهو يقول بوجوم :- سأتحدث إلى السيد رفيق كي نرحل حالا دون ضجة أو لفت للأنظار .. انتظريني هنا لأحضر لك معطفك
عندما تركها فكرت بألم .. كيف يمكنه أن يكون بهذا البرود .. كيف يتظاهر بالقلق علي والحزن لبكائي في الوقت الذي يكن فيه المشاعر لامرأة أخرى ؟ .. المنافق الحقير
الغضب نجح في السيطرة على إحساسها بالحزن .. ومنحها القوة اللازمة لتمسح دموعها وتستعيد شيئا من هدوئها مع عودة محمود بمعطفها.. سرعان ما كانا قد خرجا من الفندق وانطلقا بعيدا في سيارة محمود .. انزوت فوق مقعدها والتصقت بالنافذة وهي تتأمل الشوارع المظلمة وهي تشعر بتعاسة لم تعرفها يوما .. تعاسة لا تشبه أبدا إحساسها بالألم والعار بعد وفاة والدها .. أو إحساسها بالحزن واليتم بعد وفاة والدتها .. أو بالوحدة عند رحيل لينا ..
لقد كان إحساسا قاتلا لم تعرفه من قبل .. لقد كانت الغيرة .. الغيرة على رجل اكتشفت لتوها بأنه لم يكن لها يوما ولن يكون .. هل يمكن لألمها هذا أن يزول يوما أو أن يخف
سألها محمود وهو ينظر إليها بشكل عابر:- هل أنت مستعدة الآن للكلام والتحدث عما تسبب ببكائك في الحفلة ؟ هل وجه إليك أحدهم كلاما مسيئا أو ذكرك بوالدك ؟
لم ترد بكلمة .. بل عادت دموعها تسيل بغزارة جعلته يقول بتوتر :- نانسي
قالت بألم :- أرجوك يا محمود .. لا أستطيع الكلام الآن .. لا أستطيع
أتبعت كلماتها بشهقة جعلت أصابعه تنقبض فوق المقود وكأنه يحاول كبت عاصفة هائجة تدور داخله .. فور وقوف السيارة أمام المنزل أسرعت تنزل منها وتسير مسرعة إلى الداخل .. دخلت إلى غرفتها فلحق بها إلى هناك عندما خلعت معطفها وقال بصرامة :- هلا تكلمت الآن وأخبرتني عما حدث
قالت من بين أسنانها :- لا .. لن أتحدث إليك .. بل أنا لا أريد أن أراك على الإطلاق
قال بحدة :- نانسي .. راقبي ما تقولين
أدارت ظهرها له وهي تقول بضحكة مرة :- ماذا ستفعل يا محمود ؟ هل ستضربني ؟ لو تعرف كم أتوق لأن تفعل
أمسك ذراعها وأدارها إليه فأبعدته وهي تصيح بانفعال :- لا تلمسني .. إياك أن تلمسني .. أنا أكرهك .. هل سمعتني جيدا ..أكرهك
اندفعت نحو الحمام وأقفلته ورائها ثم انهارت على الأرض باكية بعنف غير مبالية بسماعه لها .. كانت قد وصلت إلى حالة لم تعد معها قادرة على التماسك أكثر .. لقد عرفت اليوم وهي تراقب محمود المحاط بالنساء بأنها تعشقه بجنون .. وأنها لن تستطيع العيش بدونه
وعندما شاهدت بأم عينها نظراته إلى نسرين أحست وكأن روحها تسحب من بين أضلعها .. هل يعرف محمود إلى أي حد جرحها ؟ هل يعرف كم أهانها وأذلها وطعنها في الصميم ؟
لم تعرف كم طال بها الزمن وهي حبيسة الحمام .. إلا أنها وبعد أن استنزفت دموعها كلها .. وأحست بأنها قد تحولت إلى جسد بلا روح .. أدركت بأنها يجب أن تخرج عاجلا أم آجلا .. تخلصت من الفستان الثمين ولفت نفسها بروب الحمام .. استجمعت شجاعتها وعادت إلى الغرفة مجددا لتجد محمود ما يزال مرتديا ملابسه باستثناء سترته وربطة عنقه
كان واقفا أمام النافذة ينظر بشرود عبرها إلى عائلة عمه التي وصلت لتوها .. اعتدل فور أن رآها .. ونظر إليها بطريقة جعلتها تدرك بأنه قد سمعها تبكي في الحمام
نظر إلى وجهها الأحمر وعينيها المنتفختين .. وفمها المتوتر .. وقال :- يجب أن تتحدثي إلى في النهاية يا نانسي .. يجب أن تخبريني بما حدث .. إن كان هناك من سبب لك الألم في الحفلة
قالت بجفاف :- وكأنك تهتم حقا بما يؤلمني .. لقد كدت تخدعني للحظة
توجهت إلى الخزانة لتخرج قميص نوم ترتديه ففوجئت به يقف ورائها ويديرها إليه قائلا بحدة :- لقد طفح الكيل يا نانسي .. لن أقبل بأن تقللي من احترامي .. كما لن أقبل بأن أرى زوجتي منهارة في مكان عام دون أن أعرف السبب .. أنت ستخبرينني حالا بما حدث
قاومت يديه قائلة بعنف :- أبعد يدك عني .. أنا أكرهك .. هل سمعت ..أكرهك ولا أحتمل لمستك .. أنت تقرفني وتثير اشمئزازي
برقت عيناه بغضب وهو يقول :- هل تقرفك حقا ؟ لم لا أختبر هذا بنفسي ؟
دفعها لتسقط فوق السرير وأمسك يديها قبل أن تضربه بهما .. وجثم فوقها يكتم فمها الصارخ بفمه .. قاومته بشراسة وكأنها قطة برية .. وكل جزء منها كان يصرخ رافضا له .. ابعد وجهه عنها ينظر إلى وجهها اللاهث .. إلى عينيها اللامعتين ووجنتيها المحمرتين من حرارة عراكهما .. نظر إلى شفتيها المتورمتين من فعل قبلاته .. ثم إلى الجزء المفتوح من روبها والذي كشف عن بعض جسدها .. وبلمح البصر كان غضبه قد انحسر بعيدا .. وحلت محله الرغبة العمياء وهو ينظر إلى وجهها مجددا ويقول هامسا :- لا تحاربيني يا نانسي .. أريدك .. أريد قلبك وجسدك .. أريدك راضية وسعيدة بين ذراعي ولو لمرة
همساته الحارة جعلت الدماء تفور في عروقها .. جعلت الجانب الضعيف فيها والمغرم به يتحرق شوقا لمنحه ما يريد .. تاقت إليه .. وإلى حنانه .. وإلى حبه الخالص .. وكأنه رأى بوادر الاستسلام في عينيها عاد يقبلها مجددا برقة وعاطفة جعلتها تذوب وترفع يديها لتمسك بكتفيه بقوة في تجاوب معه .. لقد كانت على وشك الاستسلام التام له ولحبه لو لم تسمع ذلك الصوت يشمت بها قائلا :- وهل أنت متأكدة بأنك أنت من يمارس الحب معها في هذه اللحظة ؟
كان هذا كافيا لها كي تستعيد صوابها .. وتتذكر بالضبط ما يجب ان تكرهه لأجله ..دفعته عنها بكل مل تملك من قوة وإرادة وهي تهتف بعنف :- اتركني أذهب أيها المنافق الكريه .. أنا أكرهك .. ولن أسمح لك بلمسي أبدا بإرادتي الحرة
زمجر غاضبا من تمردها المتأخر .. وقال بغضب :- فليكن بدونها إذن ..
أمسك طرفي روبها وأزاحهما عن بعضهما فوجدت نفسها تصيح بجنون :- ما الأمر يا محمود ؟ هل أثارتك نسرين الليلة إلى حد ما عدت معه بقادر على كبت رغباتك
أجفل محمود وهو ينظر إلى وجهها العنيف فقال متوترا :- ما الذي تقولينه ؟
لم تتردد أكثر وقد طفح بها الكيل .. صرخت به بانفعال :- هل كان إغرائها لك كبيرا لدرجة تدفعك لاغتصاب الزوجة المتاحة لك وقتما أحببت يا محمود ؟ .. هل وصل تأثيرها بك إلى هذا الحد ؟..
تراجع عنها منزعجا وهو يقول :- ما هذا الهراء الذي تتفوهين به ؟
جلست وقد سالت دموعها مجددا وهي تقول :- إياك أن تنكر .. لقد رأيتك تنظر إليها في الحفل .. لقد كنت تلتهمها بعينيك .. لم يغفل أحد عن الطريقة التي كنت تضاجعها فيها بنظراتك
مرر يده عبر شعره الكثيف وقد تلون وجهه وهو يقول بانزعاج :- أنت تتوهمين يا نانسي
وقفت تواجهه وهي تقول بوحشية :- انظر إلي يا محمود ..وإياك أن تكذب علي .. هل تنكر بأنكما كنتما تتغازلان علنا في ذلك الحفل ..هل تنكر بأنك كدت تأكلها بعينيك على بعد أمتار من زوجتك ؟ هل تنكر بأنك كنت تحدق بها برغبة جامحة دون اعتبار لما يقوله الناس عنك
ابتعد محمود عنها تماما وقد بدا عليه التوتر .. نظر إلى وجهها الثائر وأدرك بأن أعصابها على المحك .. ولكنه لم يستطع إلا أن يغمغم :- نسرين امرأة جميلة جدا يا نانسي .. وما أنا إلا رجل
اتسعت عيناها وقد ذهلت للحظات من اعترافه .. ثم بدون أن تفكر اندفعت نحوه تضربه بقبضتيها بعنف وهي تصرخ به باكية :- أيها الحقير المنافق الكريه .. ألم تفكر بي ..ألم تفكر بكلام الناس وسخريتهم بي .. أنا أكرهك ولن أسامحك أبدا على ما فعلته
أمسك بيديها ليوقفها عن ضربه وهو يقول :- اسمعيني يا نانسي .. دعيني أشرح لك
أفلتت يديها من قبضتيه وسدت أذنيها رافضة الاستماع إليه وهي تبكي مصدرة أصواتا كي لا تصلها كلمة مما يقول رافضة أي عذر منه .. فما كان منه إلا أن أبعد يديها مجددا وهو يقول بغضب :- لن تكبري أبدا يا نانسي .. لنرى إلى أين سيأخذك كبريائك السخيف هذا
ترك لها الغرفة صافقا الباب ورائه بعنف .. فانهارت على السرير وحيدة تبكي مجددا حبها اليائس وألمها الشديد الذي كتب عليه ألا ينتهي يوما